28 أكتوبر 2024
عن المفقودين والسجناء.. في مصر وغيرها
لا شيء يفوق ألم التعذيب في السجون قدر فقدان الأمل في مغادرته. قد تُنسى في السجن عاما أو عامين أو ثلاثة، وربما أكثر من ثلاثين عاما. تجارب غاية في القسوة حمل بعضها أدب السجون من رواية وقصة وشعر وسير ذاتية. حديثا، اتسعت دوائر الكتابة ومصادر المعرفة، عبر تقارير لمنظماتٍ مختصةٍ ترصد أوضاع السجناء وتحللها، فترات السجن الاحتياطي، وقائع التعذيب، أحكام الإعدام، التصفية الجسدية والمختفين قسريا، المفقودين والمفقودات.
على الرغم من قسوة حالات ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة وكثرتها، إلا أن خصومة النظم ضد معارضيها تكون أحيانا أشد قسوة وأطول فترة وتفاصيلها أقرب إلى الخيال، لا ترضى السلطوية عمّن ينتقدها أو يرصد جرائمها، وتعتبر منظمات حقوق الإنسان، حتى الأممية منها، أدوات اختراق وتشوه صور الحكومات، وتقاريرها تفتقد المصداقية، أو في أقل تقدير لا تفهم طبيعة الأوضاع في البلاد العاملة فيها. أخيرا، ألغت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مؤتمرها الذي كان مزمعا عقده في القاهرة غدا وبعد غد (4 و5 سبتمبر/ أيلول). اعتبر النظام ومؤيدوه أن قرار الإلغاء يمثل ضغطاً على النظام، بل وصفه حزب التجمع (يساري) بأنه انحياز لداعمي الإرهابيين، ونتاج مخططات جماعة الإخوان المسلمين.
بالتزامن مع اليوم العالمي للمفقودين، دعت قوى سياسية سودانية إلى التظاهر، مطالبة بالبحث عن المفقودين، بعد فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم (3 يونيو/ حزيران 2019). وهناك ضحايا آخرون في حروبٍ خاضها نظام عمر البشير ضد السودانيين. ويصنف قانون المحكمة الجنائية الدولية، الاختفاء القسري ضمن جرائم الحرب. تشبه مطالب
السودانيين مبادرة "هنلاقيهم"، والتي أطلقها مصريون بعد ثورة يناير 2011، وقد وصل عدد المفقودين خلال 2011-2012 إلى 1280 مفقوداً، على الرغم من مرور الزمن وتغير الحكومات. ولم يشهد الملف تقدّماً، بل زاد عدد المفقودين بعد مواجهة الدولة المعارضين السياسيين بعد "30 يونيو" في صيف 2013.
وبعد 36 عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية، صدر قانون المفقودين نتاج نضال أسرهم، قضى بعض من كانوا في عداد المفقودين اللبنانيين 30 عاما في سجون سورية قبل أن يتمكنوا من الهرب. ويُعد الاختفاء القسري في سورية والعراق الملف الأكثر ضخامة ضمن سجل الحريات والأمن الشخصي، أعمال قتل جماعي وسجن للمعارضين مددا طويلة في ظل حكم البعثيين والقوميين، وأحيانا لأسباب تافهة، ربما الجهر بمزحة. وتتشابه مع الفترة الناصرية في مصر في بعض التفاصيل، والتي رسخت فيما بعد أسس سطوة الدولة وقهر المعارضين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
اعتقل نظام بشار الأسد مئات الألوف بعد الثورة. وأعلنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ومكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عن تجاوز المختفين قسريا المائة ألف خلال 2011- 2018، بينما اعتقلت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) في سورية منذ عام 2012 ما يزيد عن ألفي سوري، بينهم أطفال، ومارست في مناطق سيطرتها جرائم بربرية، مركزة الاستهداف على قيادات الثورة السورية وطلائعها في إطار تخريبها. وقتل خلال 2011 -2018 ما يزيد عن نصف مليون، بالإضافة إلى سبعة ملايين مهجر سوري. وفي العراق 40 ألف مفقود ومختف، حسب بيانات اللجنة الدولية لشؤون المفقودين. وتمتد المأساة إلى بلاد عربية أخرى، مثل اليمن وليبيا، تحت وطأة الحرب متعدّدة الأطراف، والتي حوّلت
حلم التغيير إلى كابوس ومأساة إنسانية.
وفي مصر، وحسب تقرير عام 2018 لمنظمة هيومن رايتس وتش، وثّقت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" 1530 حالة بين يوليو/ تموز 2013 وأغسطس/ آب 2018 في بعض الأحيان، يظهر المفقودون أثناء احتجازهم على ذمة قضايا، أو يكتشف هروبهم للخارج خوفا من الملاحقة، أو يتم الكشف عن تصفيتهم في عملية مداهمة أمنية، ظهرت منهم أيضا حالات، انضمت إلى تنظيمات إرهابية في سورية.
ويقدّر عدد السجناء المصريين في قضايا ذات طابع سياسي بما يزيد عن 60 ألف سجين، ترفض الدولة الإعلان عن عدد المعتقلين لديها، ويتعرّض هؤلاء لظروف صعبة، نقص الرعاية الصحية، سوء أماكن الاحتجاز، المنع من التريض وأحيانا الزيارة. لا تريد السلطة، على الرغم من طول فترة الاحتجاز، وكثرة العدد، تفكيك الأزمة، أو حتى النظر في ملفات من اعتبرتهم من قبل مظلومين، في غياب ظرف سياسي أو قوى سياسية قادرة على الحوار والضغط في اتجاه حل أزمات السجناء. تستمر المعاناة، وتعلم الأطراف الثلاثة، الدولة والسجناء والقوى السياسية، أن وضع أغلب السجناء ليس مرهونا وحسب بالاتهامات التي وجهت لهم، بقدر أنه نتيجة مواقف سياسية، أغلبهم تم اعتقالهم عبر بنية تشريعية استحدثت لتوسيع آليات الضبط والاحتجاز، منها قانون التظاهر (حسب رصد غير رسمي، سجن 10400 ضمن 1600 قضية تظاهر خلال 2013 - 2016)، غير تهم أخرى، مثل بث الإشاعات. وكذلك مدّدت فترات الحبس الاحتياطي لبعض المعتقلين، لتصل إلى ثلاث سنوات، كان منهم الباحث هشام جعفر وآية حجازي التي طالب الرئيس الأميركي، ترامب، بإطلاق سراحها، وكانت مهددة بالسجن 28 عاما.
وأخيرا، سمحت الدولة بنشر رسالة 350 سجينا شابا في سجن طرة، اشتكوا من سوء
أوضاعهم، معلنين رغبتهم في التسوية مع الدولة، سبيلا للإفراج عنهم، كما طالبوا، ومعهم ألف سجين، قيادة الإخوان المسلمين، باتخاذ مواقف تؤدي إلى تفكيك أزمة السجناء عموما. وقد أرادت الدولة من تمرير الرسالة إبراز حالة الإحباط التي تعتري شباب "الإخوان المسلمين" في السجون، وأثر هيمنتها على الأجساد الذي أفضى إلى شروخ في النفوس، وتزحزح في القناعات، وتغير في مواقف بعضهم من النظام. ويؤشر اهتمام الإعلام بمناقشة الرسالة أن هناك من صفوف النظام من يريد التخفف من عبء ملف السجناء، وإطلاق سراح بعضهم، وهذا يستدعي شروطا، لعل منها إعلان "توبة" من سيفرج عنهم مستقبلا، وتقديم اعتذار للدولة، والإعلان عن مراجعة أفكار تبناها هؤلاء ومواقف اتخذوها، وكذلك تقديم تعهدات بعدم العودة إلى ممارسة العمل السياسي. ويتزامن الإعلان مع طول فترات السجن، وهناك من قاربت مده عقوبتهم على الانتهاء، ما يعنى أن قرار الإفراج عنهم يحتاج إعلانا سياسيا ييسر إطلاق سراحهم.
ليس المفقودون فقط هم من لا يعرف ذووهم أمكنتهم. يكون السجين فُقد حين لا يعرف مصيره. وحين تطول فترة السجن، يتحول السجناء إلى مفقودين ينتابهم اليأس، فاقدين الصلة بالغير وبالعالم، وهم خلف الجدران. تهشم ظروف السجن غير الآدمية الأرواح بدرجات متفاوتة، خصوصا مع الصراعات السياسية الكبرى على السلطة. ويمثل السجن هنا محطة موت مؤقت. السجن يوقف الزمن، يحتاج السجناء بعده، إن خرجوا أحياء، استكمال الحياة من نقطة التوقف. تبدأ رحلة البحث عن المحيط الاجتماعي، استعادة العلاقات الأسرية، والتواصل مع الأصدقاء
والمعارف، ما تبقى منهم على الأرجح، بعد السجن بتهمة سياسية، تطيل فترات الخصومة وتمدّدها، وتوسع دوائر الاشتباه.
عرفت مصر سجناء يسمّيهم الوسط السياسي سجناء كل العصور. حالات عديدة في عهد الملك فاروق حتى نهاية عهد حسني مبارك، ومنهم من أكمل رحلة السجون للأسف بعد ثورة يناير. قضى بعضهم نصف عمره في السجون، ونُسي آخرون داخلها، فلا يمثل للسجان سوى رقم. يحكى الشاعر المصري، سعد عبد الرحمن، عن درويش يواظب على المشاركة في المؤتمرات الثقافية، ويتآنس بروادها، ويحرص على التفاعل معهم، يسمى كمال إسماعيل. كان شابا يساريا قبض عليه البوليس السياسي، بعد مشاركته في إحدى مظاهرات اللجنة الوطنية للطلبة والعمال (تأسست في فبراير/ شباط 1946 وترأستها لطيفة الزيات). تنقّل إسماعيل بين سجون مصر ومستشفياتها، إلى أن تذكّرته السلطة، وأفرجت عنه عام 1984، في مستشفى الأمراض العقلية. قابل سياسيين وكتّابا احتجزتهم نظم متعاقبة، بوصفهم مجانين، منهم المترجم والكاتب الماركسي إسماعيل المهداوي، والذي بدأت مدد سجنه منذ نهاية الأربعينيات، كانت أطولها في مستشفى للأمراض العقلية، قضى فيها 17 عاما (1970- 1987)، لأنه كان يطالب بالديمقراطية، ورأى أنّ النظام الناصري، خصوصا بعد هزيمة 1967، يمثل ديكتاتورية عسكرية، أفضت إلى هزيمة وخراب.
بالتزامن مع اليوم العالمي للمفقودين، دعت قوى سياسية سودانية إلى التظاهر، مطالبة بالبحث عن المفقودين، بعد فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم (3 يونيو/ حزيران 2019). وهناك ضحايا آخرون في حروبٍ خاضها نظام عمر البشير ضد السودانيين. ويصنف قانون المحكمة الجنائية الدولية، الاختفاء القسري ضمن جرائم الحرب. تشبه مطالب
وبعد 36 عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية، صدر قانون المفقودين نتاج نضال أسرهم، قضى بعض من كانوا في عداد المفقودين اللبنانيين 30 عاما في سجون سورية قبل أن يتمكنوا من الهرب. ويُعد الاختفاء القسري في سورية والعراق الملف الأكثر ضخامة ضمن سجل الحريات والأمن الشخصي، أعمال قتل جماعي وسجن للمعارضين مددا طويلة في ظل حكم البعثيين والقوميين، وأحيانا لأسباب تافهة، ربما الجهر بمزحة. وتتشابه مع الفترة الناصرية في مصر في بعض التفاصيل، والتي رسخت فيما بعد أسس سطوة الدولة وقهر المعارضين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
اعتقل نظام بشار الأسد مئات الألوف بعد الثورة. وأعلنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ومكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عن تجاوز المختفين قسريا المائة ألف خلال 2011- 2018، بينما اعتقلت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) في سورية منذ عام 2012 ما يزيد عن ألفي سوري، بينهم أطفال، ومارست في مناطق سيطرتها جرائم بربرية، مركزة الاستهداف على قيادات الثورة السورية وطلائعها في إطار تخريبها. وقتل خلال 2011 -2018 ما يزيد عن نصف مليون، بالإضافة إلى سبعة ملايين مهجر سوري. وفي العراق 40 ألف مفقود ومختف، حسب بيانات اللجنة الدولية لشؤون المفقودين. وتمتد المأساة إلى بلاد عربية أخرى، مثل اليمن وليبيا، تحت وطأة الحرب متعدّدة الأطراف، والتي حوّلت
وفي مصر، وحسب تقرير عام 2018 لمنظمة هيومن رايتس وتش، وثّقت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" 1530 حالة بين يوليو/ تموز 2013 وأغسطس/ آب 2018 في بعض الأحيان، يظهر المفقودون أثناء احتجازهم على ذمة قضايا، أو يكتشف هروبهم للخارج خوفا من الملاحقة، أو يتم الكشف عن تصفيتهم في عملية مداهمة أمنية، ظهرت منهم أيضا حالات، انضمت إلى تنظيمات إرهابية في سورية.
ويقدّر عدد السجناء المصريين في قضايا ذات طابع سياسي بما يزيد عن 60 ألف سجين، ترفض الدولة الإعلان عن عدد المعتقلين لديها، ويتعرّض هؤلاء لظروف صعبة، نقص الرعاية الصحية، سوء أماكن الاحتجاز، المنع من التريض وأحيانا الزيارة. لا تريد السلطة، على الرغم من طول فترة الاحتجاز، وكثرة العدد، تفكيك الأزمة، أو حتى النظر في ملفات من اعتبرتهم من قبل مظلومين، في غياب ظرف سياسي أو قوى سياسية قادرة على الحوار والضغط في اتجاه حل أزمات السجناء. تستمر المعاناة، وتعلم الأطراف الثلاثة، الدولة والسجناء والقوى السياسية، أن وضع أغلب السجناء ليس مرهونا وحسب بالاتهامات التي وجهت لهم، بقدر أنه نتيجة مواقف سياسية، أغلبهم تم اعتقالهم عبر بنية تشريعية استحدثت لتوسيع آليات الضبط والاحتجاز، منها قانون التظاهر (حسب رصد غير رسمي، سجن 10400 ضمن 1600 قضية تظاهر خلال 2013 - 2016)، غير تهم أخرى، مثل بث الإشاعات. وكذلك مدّدت فترات الحبس الاحتياطي لبعض المعتقلين، لتصل إلى ثلاث سنوات، كان منهم الباحث هشام جعفر وآية حجازي التي طالب الرئيس الأميركي، ترامب، بإطلاق سراحها، وكانت مهددة بالسجن 28 عاما.
وأخيرا، سمحت الدولة بنشر رسالة 350 سجينا شابا في سجن طرة، اشتكوا من سوء
ليس المفقودون فقط هم من لا يعرف ذووهم أمكنتهم. يكون السجين فُقد حين لا يعرف مصيره. وحين تطول فترة السجن، يتحول السجناء إلى مفقودين ينتابهم اليأس، فاقدين الصلة بالغير وبالعالم، وهم خلف الجدران. تهشم ظروف السجن غير الآدمية الأرواح بدرجات متفاوتة، خصوصا مع الصراعات السياسية الكبرى على السلطة. ويمثل السجن هنا محطة موت مؤقت. السجن يوقف الزمن، يحتاج السجناء بعده، إن خرجوا أحياء، استكمال الحياة من نقطة التوقف. تبدأ رحلة البحث عن المحيط الاجتماعي، استعادة العلاقات الأسرية، والتواصل مع الأصدقاء
عرفت مصر سجناء يسمّيهم الوسط السياسي سجناء كل العصور. حالات عديدة في عهد الملك فاروق حتى نهاية عهد حسني مبارك، ومنهم من أكمل رحلة السجون للأسف بعد ثورة يناير. قضى بعضهم نصف عمره في السجون، ونُسي آخرون داخلها، فلا يمثل للسجان سوى رقم. يحكى الشاعر المصري، سعد عبد الرحمن، عن درويش يواظب على المشاركة في المؤتمرات الثقافية، ويتآنس بروادها، ويحرص على التفاعل معهم، يسمى كمال إسماعيل. كان شابا يساريا قبض عليه البوليس السياسي، بعد مشاركته في إحدى مظاهرات اللجنة الوطنية للطلبة والعمال (تأسست في فبراير/ شباط 1946 وترأستها لطيفة الزيات). تنقّل إسماعيل بين سجون مصر ومستشفياتها، إلى أن تذكّرته السلطة، وأفرجت عنه عام 1984، في مستشفى الأمراض العقلية. قابل سياسيين وكتّابا احتجزتهم نظم متعاقبة، بوصفهم مجانين، منهم المترجم والكاتب الماركسي إسماعيل المهداوي، والذي بدأت مدد سجنه منذ نهاية الأربعينيات، كانت أطولها في مستشفى للأمراض العقلية، قضى فيها 17 عاما (1970- 1987)، لأنه كان يطالب بالديمقراطية، ورأى أنّ النظام الناصري، خصوصا بعد هزيمة 1967، يمثل ديكتاتورية عسكرية، أفضت إلى هزيمة وخراب.