عن الحنين للوطن والخوف منه

عن الحنين للوطن والخوف منه

14 مايو 2015
+ الخط -

بعد ما يقرب من العامين في الغربة في إحدى دول الخليج، تخللهما زيارتان إلى مصر في وقت عصيب، ينتابني سؤال مكرر، لماذا نشعر بحقوقنا وآدميتنا خارج بلدنا ولماذا لا تستطيع تلك الحياة الرغدة أن تمحو شوقنا إليه؟!

أستيقظ، صباحاً، فأجدني مشتاقة إلى هواء وطني ذلك المعجون بغبار الطريق وعوادم السيارات وروائح عربات الكبدة والفول والطعمية أتلفت حولي فأرى شوارع نظيفة تملأها الأشجار وروائح غير تلك التي اعتدتها في وطني، ولكنها شوارع بلا حياة يمشي فيها الجميع، ولكنهم لا يشعرون أنها لهم أو أنها تمثلهم، يحافظون عليها ولا يرمون فيها مخلفاتهم، ولكنهم لا يحبونها كتلك الشوارع الصاخبة في بلدانهم..

أقاوم رغبتي القوية في البكاء وأبدأ اليوم فأستقل سيارتي ذهاباً إلى العمل، وفي الطريق الممهد الذي تزينه إشارات المرور العديدة أتذكر رحلتي الطويلة من السادس من أكتوبر إلى العجوزة صباح كل يوم أبحث في وجوه من حولي عن تلك النظرات الغاضبة التي كانت تميز طريق المحور فلا أجدها، وحتماً لا يوجد زحام ولا شتائم ولا كلاكسات، والجميع هنا يحترم إشارات المرور فالغرامات كبيرة ولا تهاون فيها تماماً كالسرعة، فقبل أن تفكر في اختراق القانون فكر في نقودك التي ستدفعها، حتماً، بلا مجاملات أو واسطة، وهنا ما تلبث أن تتراجع.. أشتاق إلى سرعات ما فوق 120 وأفتقد أصوات الكلاكسات وضجة الطريق، فهل تراني أستطيع التعايش معه مجدداً؟!

وفي طريق العودة إلى المنزل تكون النسمة رائقة، أنزل شباك سيارتي وأترك الهواء يداعب لعبة زرقاء معلقة بجوار مرآة السيارة، أكثر ما يزعجني على طرقات الخليج شبابيك سياراتهم المحكمة، دوماً، حتى لو كان الجو ربيعاً!؟

أتذكر جيداً في أحد أيام الربيع المحدودة هنا عندما فتحت شباك سيارتي ورفعت صوت منير عاليّاً يغني "يونس في بلد الشوق" وتخليت عن كل قواعد اللياقة، يومها، وأشرت لمن حولي أن افتحوا شبابيك سياراتكم، تجاهلني الكثيرون وابتسم لي أمثالي القادمون من تونس والمغرب والهند هؤلاء الذين يعشقون في أوطانهم صخبها.

أعود إلى المنزل الهادئ، دوماً، رغم وجود أكثر من عشر شقق في الدور الواحد من جنسيات مختلفة دون أن تسمع ضجة أو أن يتدخل أحد في أمورك. أتذكر جيراني الذين كانوا لا يكفون عن الصراخ وتبادل النكات والشتائم الخارجة حتى بعد الثانية صباحاً ولا أنسى يوم قررت أن أترك شقتي في شارع الهرم بعد فشل كل محاولاتي لحثهم على التخلص من الملعب البلدي الذي قرروا اقتناءه!.. نعم كلب ينبح ويعض ويخوف كل من يحاول الصعود للعمارة السكنية التي كنا نقطنها . الجيران رفضوا فكرة الاستغناء عن الكلب فقررنا نحن الرحيل ..!

أضع مفتاحي وأدخل فتستقبلني ابنتي الصغيرة وأحملها، وتلحقها الكبرى نتبادل القبل ونجلس أمام التلفزيون، فأجد حفل تخريج دفعات الجامعة هنا وأجد ابنة صديقتي بين الخريجات مبتسمة ورائقة البال بعد تحقيق حلمها بالتخرج من إحدى الجامعات الدولية في مجال الفن.

أنظر إلى ابنتي وأفكر، هل يمكن أن أعيش وأشاركهما تلك اللحظة؟! وكيف يمكن لمستقبلهما هنا أن يتغير لو أتمتا تعليمهما في ظل هذا النظام التعليمي المتميز من حيث المحتوى والمتابعة وفي ظل رقابة للدولة التي لا تترك لأحد فرصة للتلاعب. وذلك العذاب الذي كنّا نعيشه في مصر للبحث عن مدرسة مناسبة، وأضف إليها ما يحدث، الآن، من تفجيرات وعدم الأمان بشكل عام. أفكر في مستقبلهما هنا وماذا سيحدث لو قررت الاستسلام لشوقي والعودة إلى مصر الآن!؟

قبل عام أجرت ابنتي جراحة في مستشفى حكومي، وكانت خدمتها أكثر من قدرتي على الخيال، كان طبيبها مصريّاً ومساعدوه أجانب، تمت الجراحة على خير وقضينا في المستشفى يومين، وتقريباً لم ندفع مقابلاً يذكر وأعطونا الأدوية والنصائح قبل خروجنا وبقينا نتابع بعدها أشهراً عدة حتى أصبحت في خير حال.

وقبل أشهر عدة خضعت لجراحة تعد دقيقة، ففضلت إجراءها في مصر واخترت أكبر مستشفى متخصص في تلك الجراحة وطبيبي الذي أعرفه وللأسف تمت الجراحة بشكل سيء ومازلت أعاني من نفس الأعراض رغم عذاب الجراحة وما بعدها وكانت الخدمة في منتهى السوء، ناهيك عن المبالغ الطائلة التي حصل عليها المستشفى والطبيب. أسكت قليلاً وأتذكر الوحدة الصحية في قريتي الصغيرة هناك في الدلتا تلك التي كانت في قرية مجاورة، ولم تكن تحتكم إلا على البيتادين والشاش، أشعر بالضيم من أجل أهلي وأعرف أن مثل تلك المعضلات لن تحل، قريباً، بأي حال.

أنظر لابنتي، وأفكر هل نستسلم للحياة هنا، بلا روح ولا حلاوة، بعيداً عن الأحبة والأهل والأصدقاء في سبيل مستقبلهما الذي يمكن أن يكون واعداً في ظل خدمات اجتماعية وصحية وتعليمية محترمة أم أقرر العودة وأتركهما تلاقيان مصيراً أقل ما يوصف به أنه غامض!؟

أجلس وأصدقائي وتشغلنا الحيرة بين العودة والبقاء!.. فقد حلمنا بوطن يحترمنا ويقدر إنسانيتنا وكنا مستعدين لدفع ما يطلبه منّا في سبيل حياة كريمة لنا ولأبنائنا هناك بين جنباته وفي أحضان الأهل فأجبرنا على الرحيل بعيداً وصرنا نفقد أعمارنا في غربة تقتلنا، كل يوم، ولكنها تحترم آدميتنا.


(مصر)

المساهمون