عن "أصابع لوليتا"

عن "أصابع لوليتا"

04 فبراير 2015
+ الخط -

نستشف من تحليل العمل الروائي (أصابع لوليتا)، حسب التقنيات السردية الحديثة، أن كاتبه، واسيني الأعرج، تحاشى تقديم البطل والبطلة من منظور اجتماعي واقعي، يحتكم إلى سنن البطولة روائياً، بما يتناسب والعرف العربي الاجتماعي والديني، وانزاح بهما لكي يتجليا "كائنات من ورق"، حسب رولان بارت، فجردهما من كل مفاهيم الانتماء للمجتمع العربي، ورمى بهما في جوف نظرةٍ، لا تختلف كثيراً عن الوجهة الاستشراقية في فهمها للواقع العربي بكل انزياحاته.

تلاعب الأعرج (بلغة شعرية هشّة في بعض المطارح) ومن خلال الحوارات، لكي يستحضر روح الغرب المتفتّحة على حساب عقلية عربية وإسلامية قِشرية، لا تتنبّه إلا لنوازع السلطة والمال والجنس، وكأنه كان يتقصّد تفكيك وهدم بنيات العقل الديني والعقد الإجتماعي، ليبني على أطلالهما شخصيات سحرية مرتهنة، ومستلبة لثقافة الآخر، من دون أدنى مجهود، أو محاولة منه لتشخيص أعمق، وطرح جدلية أوسع وأدق بين الأنا والآخر، لا تكون على قاعدة توافقية، بقدر ما تؤسس لمواجهة ندية بين الحضارات، وهو المَعْني، أي الأعرج، بمساهمات جادة في ندوات عربية وعالمية، ذات صلة بموضوعات الكتابة ووظيفة الكاتب، تحديات الفكر العربي، والعولمة والثقافة، المثاقفة والحداثة، والأنا والآخر! فمن باب أولى أن يُسخّر تلك الحصيلة الثرية والنادرة، والتي قلما تجتمع في روائي، لكي يُقدّم الذات العربية في إطار يليق بها، ولا سيما أن هناك عيوناً وآذاناً لدى شريحة كبيرة من القراء الغربيين، تنظر وتستمع لواسيني باحترام وثقة.

وإن استعنّا، مرة أخرى، ببارت، فإنه يعرّف الشخصية بأنها "نتاج عمل تأليفي"، لكن واسيني لم يعطِ شخصياته مساحة رحبة، للتعبير عن أفكار وأحاسيس كثيرة، بتأليف مسبوك يقنع القارئ، وإنما جاء نتاجه توليفياً، لينتهي من رواية ضعيفة، استهلاكية، لا ترقى إلى أدنى أغراض الرواية، وهي المتعة، دوناً عن تضمينها رؤية اجتماعية صلبة، فاستحالت شخصيتاه الرئيستان إلى قربة من الغرائز، تنزو في يقينيات متفاوتة، من حيث الاستقبال الرديء أو الرفض الأعمى، ولا يترك لنا واسيني الأعرج فرصة الوقوف موقف المحلل والمشارك، في استشفاف واستشراف مصائر الشخصيات، وإنما يفرضها بطريقة مغايرة للمفهوم السلس الناعم الديمقراطي، وبديكتاتورية حادة. وفي المقابل، تظهر الشخصيات الثانوية، وهي أوروبية (إيفا، إيتان دافيد، ربيكا، وماري)، في الأغلب، لنا ناضجة ومتماسكة، ولديها منظومة فكرية وسياسية واضحة، ومُتقبّلة من الغير، بما أنها تلعب في موطنها الجغرافي والنفسي والفكري وتنافح عنه.

ونرجع إلى الشخصيتين، يونس مارينا، ولوليتا، وهما حجر الأساس في الرواية. فمن ناحية، يونس مارينا شخصية ثابتة، منذ شبّت داخل إطار سياسي كارثي، وحتى آخر لحظة من عمر الرواية، شخصية ثابتة على معتقدها ومتناغمة مع معطيات حياتها في المنفى، ومتصالحة جداً مع محيطها، بعكس لوليتا، الشخصية الإشكالية في الرواية، ومن خلالها نفهمها، فهي حسب التحليل البنيوي بمثابة دليل لـه وجهان: دال ومدلول، فتكون الشخصية بمثابة دال عندما تتخذ عدة أسماء، أو صفات، تلخّص هويتها، وهي، هنا، بمثابة تعدد أسماء البطلة واقترانها بوظيفية معينة "لوليتا، لولا، نوّة، ملاك. أما الشخصية كمدلول، فهي مجموع ما يُقال عنها بوساطة جمل متفرقة في النصّ، أو بوساطة تصريحاتها وأقوالها وسلوكها، أو بعض الإحالات إليها من نصوص أخرى، تلقي بإضاءات جمة في عملية تناص روحي، أي استعارة روح شخصية لوليتا لنابكوف، دوناً عن صفاتها الشخصية التي ألبسها لها نابكوف.
وبالتالي، لم تنطلق لوليتا/ نوّة/ وأخيراً ملاك، بشكل حر وتصاعدي، حتى يصل بها الأعرج إلى ذروة منطقية لتسويغ انبنائها وتخلقها، وإنما اندلعت فجأة في النص، وخطت بشكل يكاد يكون أفقياً، حتى وصل بها إلى لحظة الكسر والتشظي، في آخر وريقات الرواية، وتركها لمصيرها تتفتت من دون تسويغ منطقي، أو مقنع في جو جنائزي منهزم لها، واحتفالي مواز للآخر، الغربي، لا يعبأ بها وبإرهابها ومنظومته فكانت هي الضحية والجلاد، كانت هي الإشكالية المعلقة بلا حلول، بنهاية كالفجيعة بضربة قضاء واسينية ملتبسة أبداً في ميزان العدالة الشعرية.

وعلى هامش الفصول واستقراء الإسقاطات الماضية لحياة أبطاله، وتسريبها إلى نسيج النص بُغية اكتناه ذاتها السيكولوجية، ونموذجها العقلي، نتساءل: كيف يبرر الروائي لنفسه وللقارئ، مهما بلغت درجة ذكاء كليهما، فكرة تمتّع أغلب شخوص روايته بالذكاء غير العادي، والمعرفة الفلسفية العميقة بحيث لا يتحدثون إلا بعبارات مذهلة، تنم عن خبرة ثرية في الحياة والناس والثقافة! حتى المومس تتمتّع بعقلية موسوعية وفهم نافذ وحسّ إنساني رفيع، وكل هؤلاء ينطقون بالتوتر اللغوي نفسه، المحتشد بالشاعرية والدلالات الدقيقة للفظ أو الكلمة، ولا يأخذ في الإعتبار النضج العُمري، لحظة تلقي الفعل، أو فعله، بحيث نرى الفتيّ ابن العشرين ينطوي على طاقة جبارة، لفهم العلائق والجدل الفلسفي في دروس الحياة، تعادل طاقة كهول، طُعنوا في السن، وطرقوا أبواب العلم المتخصص، وعاشوا تجارب شتى، تؤهلهم للحكم السليم أو الحكيم على الأحداث الاجتماعية والسياسية.

هو إذاً تدفق سردي تلقائي، أقرب إلى التشبيح الروائي لاستعراض مواهب وملكات كثيرة، أو تجارب شخصية وغيرية، دُحشت لأجل التأثير بالمتلقي وسحره، وحشره في خانة الدهشة المستدامة والاستلاب.

فإما أن الروائي على معرفة ونية مبيتة في حياكة خيوط عنكبوتية حول المتلقي، وتسميمه بلعاب الأحداث والعبارات السحرية، وبثّ أفكار معينة في يقينه، حُددت مسبقاً وأدرجت في خطة الرواية، منذ اللحظة المُفكّر بها، والمتخيل لهيكليتها وأهدافها، وهو الظن الأغلب لدى روائيين ضالعين في الكتابة، ومكرّسين على المستوى الرسمي، ومقرّبين للهوى الغربي، أو هم يداعبون شهوته لنشر منظومة الفكر الليبرالي، بطريقة أقرب إلى التسطيح، بحيث يتزاحفون، شيئاً فشيئاً، إلى سكرته، ويعبون من دنان أو قطاف جوائزه الدانية.. أو أن الروائي، ببساطة، يتهجى أفكار هواه ورؤيته الخاصة عن الحرية، ويتراكض خلف وهم متعة الكتابة الخلابة، ليقدم إلى قارئه وجبة تحتوي على عناصر غرائبية كثيرة مهيّجة للغرائز وأشباه أو جذاذات الأفكار.

FE099105-1B22-4788-BCAC-B881517EE7C7
FE099105-1B22-4788-BCAC-B881517EE7C7
فؤاد أبوحجلة (فلسطين)
فؤاد أبوحجلة (فلسطين)