عالم رأسمالي في أزمة

عالم رأسمالي في أزمة

01 سبتمبر 2016

الأسواق المالية تحقق تراكما من دون قيمة زائدة (Getty)

+ الخط -
إذا كان انهيار الاشتراكية قد أنهى الحرب الباردة، ودمج روسيا ومجمل الدول الاشتراكية بالنظام الرأسمالي، حيث عملت الرأسمالية القديمة على دمجها من موقع التابع عبر محاولة تدمير صناعاتها، ومجمل قوى الإنتاج فيها، لكي تكون سوقاً لسلعها ورأسمالها، فإن الأزمة المالية التي حدثت في 15 سبتمبر/ أيلول سنة 2008 في أميركا، وطاولت مجمل النظام الرأسمالي، قد فجّرت الوضع العالمي الذي أرادت أميركا فرضه، باعتبار أنها "القطب الوحيد" المسيطر والمقرِّر، حيث مدّت وجودها العسكري إلى مناطق واسعة في العالم، واحتلت كلاً من أفغانستان والعراق، وفتحت على "تعدّدية" جديدة في ظل النظام الرأسمالي نفسه.
لهذا، تكتسب هذه الأزمة أهمية كبيرة في الوضع العالمي الراهن، كما في مستقبل العالم. سواء لأنها تدل على عمق الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي، أو نتيجة الصراعات التي فتحتها بين الأمم الرأسمالية، أو كذلك من زاوية احتمالات انفجار الصراع الطبقي على صعيد العالم، فقد ظهر أن القوة العظمى التي انتصرت في الحرب الباردة، وباتت القوة العظمى الوحيدة التي تريد حكم العالم، هي في أزمةٍ مستعصية، وتعاني من مرضٍ سرطاني، لا حل له، كما استنتجت نخبها المالية والسياسية والفكرية. ومن ثم أنها لم تعد قادرة على التربع على سدة العالم أكثر من سنواتٍ قليلةٍ، استهلكتها في حروبها "ضد الإرهاب"، وفي محاولة لَيّ العالم، لكي يخضع لمشيئتها، ويحلّ أزمتها الاقتصادية.
ما هي الأزمة التي نتحدّث عنها؟ ربما، بعد تكرار مملّ حول أزمة الرأسمالية ظهر في الكتابات الماركسية، أصبح الحديث عن الأزمة مملاً كذلك، لكن الرأسمالية باتت تعيش أزمةً عميقة، ومستمرة من دون حل، وسوف تفرض "انفجار فقاعات" متكرّر، وانهيارات مالية كثيرة. كانت الماركسية منذ ماركس تشير إلى "الأزمة الدورية" التي تعيشها الرأسمالية، حيث تشهد حالة نهوضٍ نتيجة الطلب على السلع، وبالتالي، توسع الإنتاج الصناعي، من ثم يصل الأمر إلى حالة الإشباع فيحدث الكساد، وهو ما يُدخل الرأسمالية في أزمة. هذه هي الأزمة الدورية التي حكمت الرأسمالية قرناً ونصف القرن تقريباً. لكننا اليوم في وضعٍ مختلف، استمر الكساد وأزمته الدورية، لكن تحولاً مهماً حدث في الرأسمالية ذاتها، في تكوينها البنيوي. فإذا كان "فيض الإنتاج" هو سمة النّصاعة، وهو الذي كان، ولا زال، يقود الى الأزمة، فقد اتسمت الصناعة كذلك بسمةٍ أخرى هي نتاج هذه، هي "فيض الأرباح"، هذه الأرباح التي كان يُعاد تدويرها في الاقتصاد من خلال التوظيف في القطاعات الاقتصادية المختلفة (الصناعة، الزراعة، التجارة، الخدمات...)، وبهذا، كان يتضخم الاقتصاد الرأسمالي، ويتوسع عالمياً، كجزء من حاجته للوجود أصلاً.
ما أفضى إليه "فيض الأرباح" هو تراكم الأرباح في البنوك، بعد أن تشبّع الاقتصاد الحقيقي، أي بعد أن أصبح التوظيف فيه يؤدي إلى انهيار كبير، نتيجة وصول الإنتاج إلى حدّه الأقصى، ودخوله في أزمة كسادٍ طويلة. لهذا، تحوّل التراكم المالي إلى التوظيف في قطاعاتٍ خارج الاقتصاد الحقيقي. وبهذا، تشكلت حقول توظيف جديدةٍ، أو توسعت حقول قديمة، وباتت كلها هي الكتلة الأساس في مجمل الاقتصاد العالمي. بات التوظيف في الديون المحلية والعالمية، للأفراد وللدول، والتوظيف في المضاربات في أسواق الأسهم على الشركات ذاتها، والمضاربة على السلع والخدمات (النفط، القمح، الأرز، وحتى العملة)، والتوظيف في المشتقات المالية (أي شراء أوراق العقود مثلاً)، هو النشاط المهيمن في الاقتصاد الرأسمالي. أي بات الاقتصاد الريعي هو المهيمن، منحياً الاقتصاد الحقيقي الذي يقوم على الإنتاج.
في هذا الاقتصاد، تفضي المضاربات وتركيز النشاط في هذه القطاعات وطابع القطاعات ذاتها، كونها تقوم على نشاط مالي (ن – نَ كما شرح ماركس)، إلى التراكم السريع التضخمي، من دون تحقيق قيمة زائدة، وبالتالي، تضخم قيم الأشياء بشكل مفتعل. هذا الأمر هو الذي يُنتج الفقاعات، ويفضي إلى تفجرها، وبالتالي، حدوث انهيار مالي متكرر، وأزمة مستديمة في الرأسمالية. هذا هو مرض الرأسمالية المزمن.