28 أكتوبر 2024
سياسة الجباية... مصر نموذجاً
تهدف السياسة الضريبية، في الأساس، إلى إقرار العدالة الاجتماعية، وتقتطع الدولة جزءاً من أرباح الأفراد الذين لديهم مداخل عالية، لتعيد توزيع ما اقتطعته على أولئك الأقل دخلاً، من المفترض أن تحصل الضرائب من يمتلكون مؤسسات أو ثروات تدر عليهم أرباحاً، لتوجه حصيلة هذه الضرائب، في جزءٍ منها، إلى الخدمات العامة الموجهة لأفراد المجتمع، لتحقيق الدولة من الضريبة مصلحة عامة، فلا ضريبة من دون ربح، ولا رسوم من دون خدماتٍ تعود بالنفع على صاحبها، ومن المفترض أيضاً أن توجه جزءاً من الضريبة إلى تحسين الأحوال المعيشية للمواطنين، أو تصرف بعضها على الاستثمارات المباشرة التي تستهدف إيجاد تنميةٍ تعتمد على الإنتاج. على هذا الأساس، بنيت فلسفة الضرائب ضمن السياسات الاقتصادية. لكن، في الوطن العربي، تلجأ حكومات عديدة إلى الضرائب، بوصفها أداةً لحل فشلها في إدارة الملف الاقتصادي، فتفرض على المواطنين مقابل الخدمات، أو تعاملها مع أجهزة الدولة الرسمية ومصالحها المختلفة، رسوماً مبالغاً فيها. وإذا نظرنا إلى مصر، نجد أنها حالة تجسد إقراراً لسياسة جبائية، تتصف بانعدام العدالة وبالتميز، بل واللصوصية، لتتحول سياسة الضريبة ورسوم الخدمات من أداة لإقرار العدالة إلى سلاح لانتهاكها.
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها مصر، أو الشدّة السياسوية، كما يسميها بعض رواد "فيسبوك"، يستمر النظام في تطبيق سياساتٍ تقشفيةٍ لحل العجز في الموازنة، وكأن أزمة الاقتصاد المصري تتقلص في هذا العجز، وليس إن العجز ذاته عرض لمرض الاقتصاد بالأساس. وعلى الرغم من فقر الفكر الاقتصادي، والتعامل مع هذه الأزمة بهذا المنطق الحسابي الرقمي الذي يضع المصروفات مقابل الموارد فحسب، ويتغاضى عن طبيعة النمط الاقتصادي، فان النظام اقتصرت حلوله على التقشف، ليحدّ من بنود الصرف على الخدمات، وليعلن النظام، بكل وضوح، أنه لا سلع من دون دفع تكلفة، وعلى الرغم من المغالطات المرتبطة بتكلفة الخدمات، إلا إننا أمام مشهدٍ عبثيٍّ، يحول الدولة من أداة لإدارة شؤون المجتمع وتحقيق العدالة، إلى كيان استثماري يهدف للربح، ويخلف عوائد مالية لصالح فئات قريبة من الحكم. وبهذا، تتخلى الدولة من مسؤوليتها الاجتماعية، لتصبح كياناً يشكل عبئاً على المواطنين، لا سنداً لهم.
خلال عامين، ارتفعت أسعار سلع وخدمات عديدة، ارتفع بعضها ثلاث مرات، فاتورة الطاقة
(الكهرباء، والغاز، والسولار) مجرد أمثلة، وكذلك تم رفع رسوم خدمات التعليم والصحة والنقل، ومازالت الدولة مستمرة في هذه السياسة، وتنوي رفعها مراتٍ أخرى، حسب المخطط الذي أعلن عنه في العام 2014، والذي يستهدف تحريراً كاملاً لأسعار كل الخدمات، لتكون السلع بتكلفتها، بل إن بعض المسؤولين يقارنون بين أسعار الخدمات في مصر ومعدلها العالمي، في تجاهل تام لأحوال المصريين الذين يعانى نحو ربعهم من البطالة، وأكثر من نصفهم الفقر، يطالب هؤلاء بأن يدفعوا أسعار الخدمات مثل مواطني دول أوروبا. لا يسأل جهابذة الاقتصاد خريجي مدارس النهب الاقتصادي عن مقارنة دخول المواطنين المصريين بمواطني أوروبا.
مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية، يرفع العمال شعاراً بسيطاً "خذوا رواتبنا وأعطونا خبزاً وسكناً"، فالأجور لا تكفي الحد الأدنى للمعيشة، بينما تنفذ الحكومة خطط التقشف مع السياسة الجبائية، وهو الربط الذي أعلنت عنه المجموعة الاقتصادية منذ عام مضى، بشكلٍ واضحٍ في إصداراتها وتقاريرها المالية.
اعتبرت وزارة المالية أن رفع أسعار الخدمات على المستهلكين، وتقليل المصروفات على برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، وفرض ضريبة القيمة المضافة، ثلاثة حلول لعلاج خلل الموازنة. ولم تكتف الحكومة المصرية بفرض زياداتٍ في الأسعار، بل فرضت رسوماً جديدة على تعاملات المواطنين مع مؤسسات الدولة، ففرضت رسوماً على شهادات الميلاد والزواج والطلاق، وطالبت البرلمان بإقرار رسوم على المواطنين المتعاملين مع القضاءين، المدني والعسكري، توجه لصالح صندوق الخدمات الطبية المقدمة للقضاة في الهيئتين، وتدرس الحكومة اليوم فرض ضرائب على صالات الأفراح!
يستخدم البرلمان أدة لتشريع مثل هذه القرارات، والتى كان منها أخيراً مناقشة قانون القيمة المضافة، وهو القانون البديل لضريبة المبيعات، والذي يستهدف جمع ما يزيد عن 31 مليار جنيه. وحين اعترض ثلاثة عشر نائباً من تكتل 25 يناير على القانون، وطريقة مناقشتة وإقراره بالتصويت اليدوي، بدلاً من التصويت الالكتروني، حولوا إلى لجنة القيم، عقاباً لهم، لعدم الإذعان الكامل لسياسة الجباية التي تطبقها الدولة، اعتبروا هؤلاء المعترضين بلا قيم تليق بحكومة الجباية.
نستطيع توصيف هذا المشهد بأن فشل الدولة في إيجاد نموذج تنمية حقيقية، تحل أزمة
الاقتصاد، دفعها إلى جمع متحصلات من جيوب الفقراء، من خلال تعاملاتهم اليومية بشكل إجباري، سواءً فيما يخص الخدمات، أو دفع رسوم استخراج بعض الوثائق الرسمية، كما تتصف هذه السياسة الضريبية بالإجحاف والظلم، فهي تضر الشريحة الأكبر من الشعب، سواء كانوا ينتمون إلى الشرائح الفقيرة، أو الشريحتين الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى، وأن هذه السياسة الجبائية تضيف أعباء جديدة على أغلب المصريين، كما تتنافى مع فلسفة الضريبة، وكونها أداة لإعادة توزيع الموارد، بل تسمح، في جوانب منها، بنهب الفقراء لصالح مالكي الثروات ووسائل الإنتاج والمتحكمين في أسواق السلع، أو مقدمي الخدمات، وإذ تقر الدولة هذه السياسات، فإنها تتخلى، بشكل واضح، عن أحد أدورها في تلبية احتياجات الجمهور، أو متطلبات المجتمع، وتنحاز إلى فئاتٍ محدّدة فيهم، بل وتقوم بتحميل عبء خدمة ورفاهية بعض مكونات السلطة على الفقراء، كما سبق وأوضحنا في مطالبة الحكومة بفرض رسوم على المواطنين لتغطية تكلفة الرعاية الصحية للقضاة.
وتكشف هذه السياسة الضريبية التي يطبقها النظام المصري، في جانب منها، طبيعة الانحيازات الاجتماعية والتوجهات السياسية للنظام، وتثبت أن البرلمان القائم، والذي يوافق على هذه القرارات المجحفة، لا يعد ممثلاً للشعب، بل يعد تمثيلاً حقيقياً للثورة المضادة وقوى النهب والاستغلال.
الربط بين الإصلاح الاقتصادي ومواجهة الأزمات بالتقشف والجباية دليل على ضيق أفق وفقر في التفكير، ودليل أكبر على طبيعة الانحيازات الاجتماعية ضد الفقراء. ويلخص هذا المشهد الصورة الكلية للنظام الذي وعد المصريين، منذ مجيئه، بأنه قادر على تغيير واقع مصر، وتحسين ظروف المصريين، فقد أثبتت الوقائع ومؤشرات الاقتصاد أن هذا النظام فشل في توظيف الموارد البشرية والطبيعية، لتحقيق التنمية عبر خطط مدروسة وعادلة، وأنه نظام يعيد إنتاج سياسات النهب التي رفضها المصريون سابقاً.
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها مصر، أو الشدّة السياسوية، كما يسميها بعض رواد "فيسبوك"، يستمر النظام في تطبيق سياساتٍ تقشفيةٍ لحل العجز في الموازنة، وكأن أزمة الاقتصاد المصري تتقلص في هذا العجز، وليس إن العجز ذاته عرض لمرض الاقتصاد بالأساس. وعلى الرغم من فقر الفكر الاقتصادي، والتعامل مع هذه الأزمة بهذا المنطق الحسابي الرقمي الذي يضع المصروفات مقابل الموارد فحسب، ويتغاضى عن طبيعة النمط الاقتصادي، فان النظام اقتصرت حلوله على التقشف، ليحدّ من بنود الصرف على الخدمات، وليعلن النظام، بكل وضوح، أنه لا سلع من دون دفع تكلفة، وعلى الرغم من المغالطات المرتبطة بتكلفة الخدمات، إلا إننا أمام مشهدٍ عبثيٍّ، يحول الدولة من أداة لإدارة شؤون المجتمع وتحقيق العدالة، إلى كيان استثماري يهدف للربح، ويخلف عوائد مالية لصالح فئات قريبة من الحكم. وبهذا، تتخلى الدولة من مسؤوليتها الاجتماعية، لتصبح كياناً يشكل عبئاً على المواطنين، لا سنداً لهم.
خلال عامين، ارتفعت أسعار سلع وخدمات عديدة، ارتفع بعضها ثلاث مرات، فاتورة الطاقة
مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية، يرفع العمال شعاراً بسيطاً "خذوا رواتبنا وأعطونا خبزاً وسكناً"، فالأجور لا تكفي الحد الأدنى للمعيشة، بينما تنفذ الحكومة خطط التقشف مع السياسة الجبائية، وهو الربط الذي أعلنت عنه المجموعة الاقتصادية منذ عام مضى، بشكلٍ واضحٍ في إصداراتها وتقاريرها المالية.
اعتبرت وزارة المالية أن رفع أسعار الخدمات على المستهلكين، وتقليل المصروفات على برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، وفرض ضريبة القيمة المضافة، ثلاثة حلول لعلاج خلل الموازنة. ولم تكتف الحكومة المصرية بفرض زياداتٍ في الأسعار، بل فرضت رسوماً جديدة على تعاملات المواطنين مع مؤسسات الدولة، ففرضت رسوماً على شهادات الميلاد والزواج والطلاق، وطالبت البرلمان بإقرار رسوم على المواطنين المتعاملين مع القضاءين، المدني والعسكري، توجه لصالح صندوق الخدمات الطبية المقدمة للقضاة في الهيئتين، وتدرس الحكومة اليوم فرض ضرائب على صالات الأفراح!
يستخدم البرلمان أدة لتشريع مثل هذه القرارات، والتى كان منها أخيراً مناقشة قانون القيمة المضافة، وهو القانون البديل لضريبة المبيعات، والذي يستهدف جمع ما يزيد عن 31 مليار جنيه. وحين اعترض ثلاثة عشر نائباً من تكتل 25 يناير على القانون، وطريقة مناقشتة وإقراره بالتصويت اليدوي، بدلاً من التصويت الالكتروني، حولوا إلى لجنة القيم، عقاباً لهم، لعدم الإذعان الكامل لسياسة الجباية التي تطبقها الدولة، اعتبروا هؤلاء المعترضين بلا قيم تليق بحكومة الجباية.
نستطيع توصيف هذا المشهد بأن فشل الدولة في إيجاد نموذج تنمية حقيقية، تحل أزمة
وتكشف هذه السياسة الضريبية التي يطبقها النظام المصري، في جانب منها، طبيعة الانحيازات الاجتماعية والتوجهات السياسية للنظام، وتثبت أن البرلمان القائم، والذي يوافق على هذه القرارات المجحفة، لا يعد ممثلاً للشعب، بل يعد تمثيلاً حقيقياً للثورة المضادة وقوى النهب والاستغلال.
الربط بين الإصلاح الاقتصادي ومواجهة الأزمات بالتقشف والجباية دليل على ضيق أفق وفقر في التفكير، ودليل أكبر على طبيعة الانحيازات الاجتماعية ضد الفقراء. ويلخص هذا المشهد الصورة الكلية للنظام الذي وعد المصريين، منذ مجيئه، بأنه قادر على تغيير واقع مصر، وتحسين ظروف المصريين، فقد أثبتت الوقائع ومؤشرات الاقتصاد أن هذا النظام فشل في توظيف الموارد البشرية والطبيعية، لتحقيق التنمية عبر خطط مدروسة وعادلة، وأنه نظام يعيد إنتاج سياسات النهب التي رفضها المصريون سابقاً.