سفاسف الأمور

سفاسف الأمور

23 أكتوبر 2014

كانت للقاهرة، دائماً عبر السنين، أسباب تزيد محبتها

+ الخط -
ـ هل كانت إشارةً، أم مجرد مصادفة، أن يبدأ في مصر، ومنذ قديم الأزل، ظهور نموذج المواطن الذي يربط كل شيء في الدنيا بالمصلحة و"السبوبة"، والذي أصبح، مع مرور السنين، يُشكل زمرة حاشدة، تحمل لقب "المواطنين الشرفاء"؟ ذلك المواطن الذي تُلخِّص سورة يوسف منطقه خلال حواره مع زوجته في الآية: "وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً"، ولعلّه قال لها في الحوار نفسه، بلغة ذلك الزمان "وأهو نبقى طلعنا منّو بأيّ مصلحة".
ـ كل مَن يردّد بحماس بالغ مقولة: "ما يبقى على المداود إلا شر البقر"، ينسى، طبعاً، أنه "لسّه عايش".
ـ لن تجد كلمة تعرّضت للابتذال مثل كلمة (ابتذال).
ـ كل الذين يتحدثون عن أهمية تجديد الخطاب الديني، في بلادنا، لم يخطر في بالهم كيف يمكن أن يكون الحديث عن أهمية الرضى بما رزق الله، وعدم البَطَر بالنعمة، مؤثراً وفعالاً، لو استخدم المشايخ فيه تلك الصور المحزنة لنجمة هوليوود، رينيه زيلويجر، بعدما أفسدت عمليات التجميل وجهها الجميل.
ـ الحياة محيّرة، لدرجة أنك لو وجدت في جيب شخص صدمته سيارة جدولاً بمواعيد الموالد التي تقام في القاهرة، لن تكون متأكداً تماماً، هل هو باحث في التصوّف أم نشال؟
ـ كل مَن أعرفهم تؤثر فيهم أقوال الشيخ عبد ربه التائه، التي يرويها مولانا نجيب محفوظ في رائعة "أصداء السيرة الذاتية"، إلا صديق طفولةٍ قال بثبات انفعالي، يُحسد عليه، إن كلام هذا "الشيخ عبد ربه التائه" لن يؤثر فيه إلا إذا أثْبَتُّ له، أنا، أو غيري من المتحمسين له، أنه تاه وهو كبير، لأنه إذا كان قد تاه، وهو "زغيّر"، فتقاليدنا الشعبية المتوارثة تجعلنا نرفض تماماً الاقتناع أو التأثر بكلام أحد تاه صغيراً، فالله أعلم ما الذي حصل له بالضبط وهو تائه.
ـ ما الذي سيحدث، لو نشر كاتب مقالاً يقول فيه إنه عاد إلى شقته، فوجد أمام بابها ملاكاً يبكي بحرقة، وعندما حاول أن يستفهم منه عن سر بكائه، شكا الملاك للكاتب من ابنته الصغيرة التي تضيع مستقبله المهني، لأنها تعلّق صور بطوط وميكي في غرفتها، وأن ذلك يمنعه من دخول الشقة، لكي يمارس عمله كملاك حارس لها؟ ستقوم الدنيا ولن تقعد طبعاً، وسيتهم ذلك الكاتب بالويل والثبور و"أواسخ" الأمور، وهو ما لم يحدث، أبداً، عندما تناقلت وسائل الإعلام فتوى لشيخ سلفي شهير، تقول إن تعليق صور بطوط وميكي في البيوت يمنع الملائكة من دخولها، مع أن فتوى الشيخ أمرّ وأنكى، لأنه يتكلم بجد.
ـ كل دعاوى عدم جدوى الكتابة ستتبدّد لديك، لو تذكرت ذلك الدأب المدهش الذي يمتلكه ذلك العدد المهول من النصابين الذين يرسلون، كل يوم، آلاف الإيميلات، شرقاً وغرباً، يتقمّصون فيها شخصيات أرامل وزوجات وعشيقات مسؤولين، سابقين وحاليين، في بلدان تتغيّر أسماؤها، وتتشابه أوضاعها المزرية، ويطلبون من مغفلين مفترضين أن يساعدوهن في تهريب ثرواتهن مقابل مبلغ مادي رمزي. حاول أن تتذكر أول مرة تلقيت فيها تلك الرسالة، وآخر مرة، وستندهش من قدرة تلك الخدعة على التجدّد والانبعاث، بشكل يؤكد وجود جمهور يصدقها، وإلا لكانت قد ماتت عقب ظهورها، مثلاً، في الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي، وربما جعل ذلك الأمل يغمرك بأن مَن رزق أولئك النصابين، دائماً، زبائن، سيرزقك حتماً قراء.
ـ بعيداً عن الطنطنة الوطنية التي لا تساوي "تلاتة أبيض"، كانت للقاهرة، دائماً عبر السنين، أسباب تزيد محبتها، حتى لو كانت أسباب بسيطة من نوعية: "فاكهتها حلوة.. أحلى قهاوي في الدنيا.. تسهر فيها لوشّ الصبح.. حلوة بالليل.. دافية في الشتاء.. عبقرية وهي فاضية في الإجازات.. ما فيش أحلى من رمضانها.. فيها حر بس من غير رطوبة.. أرخص مدينة تعيش فيها"، وكانت هذه الأسباب تجعل حتى المتورطين في سكناها "يتحاببوها" إن لم يحبوها، لكن المؤسف أن القاهرة ظلت مع مرور السنين تفقد أسباب محبتها البسيطة تلك، وما زالت مستمرة في فقدانها بإصرار، حتى أصبحت أخشى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه الميزة الوحيدة لسُكنى القاهرة أن "الغسيل بينشف فيها بسرعة".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.