سعيد عقل: الشاعر المثير للجدل في السياسة واللغة والأغنية

سعيد عقل: الشاعر المثير للجدل في السياسة واللغة والأغنية

29 نوفمبر 2014
الشاعر الراحل سعيد عقل (رسم أنس عوض)
+ الخط -
بعد رحيل الفنانة صباح والمطربة نهوند، غادر في الأمس الشاعر سعيد عقل. وهنا شهادتان حول نظرة عقل وعلاقته بالمرأة التي كتب عنها أشعاراً من أم إلى عاشقة. وشهادة أخرى، عن أغانيه في حب فلسطين وبلاد الشام.

المرأة عند سعيد عقل

قال سعيد عقل يوماً في إحدى مقابلاته: "لا أتغزل إلا بالمرأة النبيلة. المرأة التي ترمي نفسها بين يديك ليست امرأة عظيمة. أتغزل بالمرأة التي لم تحب إلا زوجها. المرأة التي تترك نفسها لأي كان، ليست أهلاً للغزل. المرأة التي تستحق الشعر هي المرأة التي تغزلت بها. المرأة التي لم تلمس زوجها إلا بعد العرس هي التي غناها سعيد عقل". أعتقد أن سعيد عقل كان الشاعر الأقسى بحق المرأة.

يرى عقل المرأة بمثالية مُنفرة، ويحيطها بهالة من القدسية والخشوع. يحبها عن بعد فقط. إذ يقول في ديوان "رندلى": "أحبّك في ذلّة الراكع/ وأحيا على أمل وادع/ وأعرف ألا أبوح بحبّي/ فأبقي له فسحة الخاشع". ويقول في قصيدته "أجمل منك؟ لا": "حولي دنياي على بعدٍ/ أنا لا لأُضمّ ولا لأُشمّ/ أنا... دعني... حلم يُحلم".
يتكلم سعيد عقل عن المرأة كثيراً في اشعاره، ولكن من دون حب. وكان يقول عنه الشاعر صلاح لبكي إنه: "نحت لا مشاعر فيه ولا شعور". يبالغ عقل في التعالي عن مشاعره وعدم الخضوع لها. يعترف لـ"سمرائه" بأنها "حب الطفولة"، ثمّ يتدارك: "لا تقربي مني وظلي فكرة لغدي جميلة". سأله الإعلامي زاهي وهبي قبل سنوات: "كم مرة أحببت في حياتك؟" فأجاب: "أحبتني ثماني نساء". مثله مثل ميخائيل نعيمة الذي كتب يوماً: " لقد هامت بي أكثر من فتاة في ذلك الصيف، إلّا إنني لم افتح قلبي، ولا استسلمت لإغراء أي واحدة منهن". والغريب أنّ كلاهما كانا من المرحلة الرومانسية في الأدب.

توفي سعيد عقل عن عمر يناهز المئة وسنتين ولم يتزوج إلَا مرة واحدة. وانتحرت زوجته آمال جنبلاط بعد زواج قصير. وكان خطب من قبل سعاد أبي صالح عام 1952، لكن الخطبة انفرطت لأنه "ليس مهيأً للزواج، في رأسه قضايا أكبر من المرأة"، على حد تعبيره.

كان طبيعياً البحث عن صورة الأم عند سعيد عقل. يصف عقل أمه بـ "المعلمة" و"الحلوة" و"النبيلة الشهمة التي تحملّت والده العصبي". يعترف أنّه أخذ عنها "عقلها وذكاءها وملامحها الجمالية"، ولم يكن يعرف والده سوى "الشتم". وكان واضحاً أنّ نظرة "النقاء" التي ينظر بها إلى النساء كانت تشبه إلى حدّ ما نظرة الشاعر إلى الأم التي تتحمل العصبية والخيانة مثل قوله في قصيدة "زهرة الزهور": يخونها، ولا تخون العطر زهرة الزهور". دعا سعيد عقل إلى استبدال اللغة العربية باللغة المحلية. دعا إلى "اللغا اللبنانيي" وإلى استخدام الحرف اللاتيني.


والملفت أن قصائده المكتوبة بـ"اللغا اللبنانية"، انشهر منها اثنان فقط غنتهما فيروز وهما "يارا" و"بحبك ما بعرف". ذلك أنّ صوت فيروز اخترق العامية اللبنانية وجعلها مقبولة في مصر والمغرب. غنت له فيروز بالفصحى أيضاً "زهرة المدائن" و"غنيت مكة" وغيرها. ويبدو أنّ عقل ترك تأثيراً واضحاً على اللغة رغم الانتقادات الكثيرة التي طالته بسبب دعوته إلى "القومية اللبنانية". إذ يبدو أننا نستعمل "لغة سعيد عقل" الآن في رسائلنا الإلكترونية.

سعيد عقل في الحب والمدن

القصائد تسبق أصحابها إلى القلوب، فإذا ما عرف اسم قائلها دخل القلب ليجد مكاناً له متروكاً فيه. هكذا كان حالنا مع الشاعر سعيد عقل، وقد غنى الحب كما نحلم به والبلاد كما نعشق أن تكون.

ولعلّ من حق الرجل أن يغار من قصائده، فقد تربعت على عرش الشهرة من دونه أو سبقته. لكن ذلك لم يكن ذنب القصيدة، ولا سيما تلك التي حملها إلينا صوت فيروز الملائكي، وإنما هو ذنب أمة عرفت بسوق عكاظ الشعري والمعلقات الخالدات. ثم هجرت ديوانها الشعر لتكتفي بالمغنى منه، ولاحقاً ليأخذ لبها بالراقص على إيقاعه فقط. هل كان سعيد عقل ينتظر الأغاني لتذيع قصائده وشهرته؟ في الغالب لا، ولكن نحن الأمة الأمية من كان يحتاج المقام الموسيقي ليعرف مقام المقال حين يقوله سعيد عقل. رغم كل شيء، كان طغيان شهرة قصيدة "سعيد عقل" المغناة الظاهري يختزن لصاحبها حب عشاقها، ففي مخيم اليرموك مثلاً كان يكفي للمراهق الذي كنته أن يعرف أن سعيد عقل هو كاتب رائعة فيروز "زهرة المدائن" ليعلق صورته على جدار البيت، ولينبش المكتبات بحثاً عن دواوينه. وليسعى خلفه، يطوف خلف قصائده، كتاباته، لقاءاته. لا يمكن بالضبط فهم العلاقة بين سعيد عقل مع المدن( دمشق، القدس، مكة، بيروت) هو لبناني ويحب لبنانه حد التطرف... ولعل تلك المدن في حياته كانت مثل عشيقاته، هي أحبته/ هن أحببنه، وهو اكتفى بالحب منهن. ولهذا السبب ربما هو التقط المعنى البليغ للمدن/ للمرأة. فشيد صرحاً من الهوى لها/ لهن اتسع حتى حسب كل عاشق أنه صرحه. وتلك هي ميزة قصيدة سعيد عقل تخص الجميع بقدر ما تخصه.

  

بين سعيد عقل والشام كان ثمة علاقة خاصة، لها صدحت فيروز ستاً من قصائده، لعلها كانت أشهر أغاني فيروز في حب دمشق، وهي: "سائليني يا شآم"،" يا شام عاد الصيف"، "قرأتُ مجدك"، "شامُ يا ذا السيف لم يغب"، "نَسمتْ "، "مُرّ بي". وبعض من تلك القصائد كانت تنظم لترتفع بصوت فيروز على منصة معرض دمشق الدولي/ موعد الدمشقيين السنوي مع فيروز. ولكن أبلغها نُظم في وقت سابق هي "سائليني يا شآم" التي غنتها فيروز قبل نحو نصف قرن.

يقال عن سعيد بأنه "كتب أجمل قصائد الغزل ولم يعشق بعد". ترى هل أحب سعيد عقل دمشق، بالشكل الذي عرفناه في قصائده؟ هو أحبها على طريقته في الحب، حين يودّع فيه مساحة خاصة لا تخصه بقدر ما تخص الجميع. وبذلك يختلط الحب علينا فلا نعرف من أحب الآخر أكثر، هو أم دمشق؟ عاش سعيد عقل قرناً من الزمن، شهد خلاله تحولات المدن وتحولات الحب أيضاً. شهد تحولات القصيدة. موتها لصالح الأغنية. وموت هذه الأخيرة لصالح الصورة. ولكنه في كل مرة كان حالها معها حال قصيدة (فتحهن علي): " يفنى الزهر أبقى أنا إلك ".

دلالات

المساهمون