سؤال الثورة في تونس بعد الانتخابات

سؤال الثورة في تونس بعد الانتخابات

02 نوفمبر 2014

تونسيون يتظاهرون ضد الإرهاب والفساد (19يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -

بقدر ما كانت نتائج الانتخابات التشريعية في تونس صادمة لبعضهم، وسارّة لآخرين، بقدر ما أججت أسئلة كثيرة، كانت مطمورة الصوت في خضم خطابات التيارات والأطراف ولعل أبرز الأسئلة، كيف تأتى للـ"بنعليين"، وإن حملوا عملة الثورة، كما ألح على الاشتراط والتأكيد زعيم حركة النهضة التاريخي، عبد الفتاح مورو، العودة إلى قيادة مجتمع، يفترض أنه ثار وقدم دماء في سبيل تقويضهم من المسرح السياسي التونسي؟

تنبغي الإشارة، في البدء، إلى أن السلطة التي تأتت بعد "الثورة" والممثلة في الترويكا، دفعت فاتورة غالية بشأن التموقع في المشهد السياسي "الما بعد" ثوري، إذا ما نظرنا من زاوية الامتياز الانتخابي الصرف، وهذا عبر تصديها لعملية الترتيب "الثوري" للمجتمع، في ظل حالة الفوضى الطبيعية التي تعقب مثل هكذا حدث، فمهمتها، بحكم الظرف، كانت إعادة بناء الدولة، مؤسسياً وتشريعياً، رسم خارطة طريق تأتى عنها المشهد والنتائج الانتخابية الأخيرة. لهذا، يمكن اعتبار نجاح الانتخابات بمثابة نجاح يُحسب للسلطة التي ورثت المجتمع الثوري في تونس، بعد هروب بن علي، واختباء "البنعلية" في دهاليز المال والنفوذ السياسي في البلاد.

فما هو معلوم من طبيعة التغيير الثوري وضروراته في التاريخ أن أي حركة شعبية، أو نخبوية، تقدم على تغيير جذري، يحمل صفة الثورة، أن تلجأ إلى ما يمكن نعته بالتكسير الثوري، الذي يهيئ الأرضية لعملية البناء الجديد، أي تحطيم الأسس، الآليات والركائز التي استند إليها الاستبداد السابق، في بسط وتوطيد حكمه، وعدم الاكتفاء بتعطيل مفعول تلك الأسس والآليات وحركيتها، وهو ما حدث في تونس، وفي مصر أيضاً بدرجة أكثر، ولعل ما حال دون بلوغ هذا المستوى من الإجراء الثوري هو لاانتمائية البادرة الثورية، أي أنها لم تكن لنخبة أو توجه جماعة ذات نسق فكري ومؤسسي واحد، وهو ما ساعد الفلول المعلنين والمندسين على مباشرة عملية الاسترداد.

هكذا، إذن، لم يتم تبديد أسباب انبعاث الاستبداد عبر إفناء بذور نباته، إنما تمت تنحيته جانباً وغض الطرف عنه، وتحويل الأضواء عنه، عبر إعلام ثقيل خدمه بسحب الأضواء منه، أكثر من أن يقال إنه أضر به، لأنه كان في أمس الحاجة، في مثل تلك الظروف المتسمة بالغضب الشعبي العارم، لأن ينزاح من اهتمامات الإعلام، ليظل الغضب مشتعلاً، ويطال السلطة الجديدة، وهو ما حصل في تونس ومصر بشكل كبير وفاضح.

ثمة، أيضاً، تغييب غير مفهوم للآلية القضائية في عملية التظهير الثوري، بفتح الملفات المتعلقة بجرائم النظام السابقة على الصعد الإنسانية والمالية والسياسية، فلا شيء حدث بحجم التغيير الذي حصل، وهو ما يقوي من فرضية لاثورية الحركة التغييرية، أو لنقل الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظامين مفسدين مجرمين في تونس ومصر. فقد أعطى عدم التعامل بحزم، قضائياً، مع الارث السابق، الجرأة لبعض رموز الفساد السابق لأن يعودوا ليتصدروا المشهد المعارض، ومن خلفهم خزائن الفرعونية السابقة جاهزة، لدعمهم بشتى مصادر القوى، لإعادة الحياة للنظامين اللذين يفترض أن ينعتا بالبائدين، في حين اتضح أنهم بادئون مجددا في العودة وبقوة، لاقتياد الشعوب مجددا.

قد يعترض أحدهم بالسؤال: من قال إن القوى السياسية الجديدة نسخة عن النظام السابق؟ هو تساؤل يجد له مساحة من الشرعية، طالما أن القطيعة الفظيعة بين المرحلتين كانت ذات بعد إقليمي، وليس فقط محلي تونسي، وكذلك لأن منظومة الحكم أعيدت صياغتها بحرصٍ كثير على عدم إنتاج ما يشبه النظام السابق، لكن بقاء البنى التحتية للنظام السابق، والقادرة، من دون أدنى ريب، على ترويض الفعال السياسي، الجديد منه والمتجدد، أي الذي اندرج في عهد "الثورة"، ووجد له موطئ قدم في العهد الجديد، من حيث لا يمكنه ذلك، مثلما أسلفنا قوله، تداعياً لشروط النجاح التي تتطلبها التجربة الثورية.

الملاحظ، أيضاً، في الخطاب الإعلامي المتعاطي مع النتائج الانتخابية الأخيرة، بحسن أو سوء نية، هو محاولة تأكيد فرضية الاقتراع الأيديولوجي للمواطن التونسي، وهذا بالتركيز على قول انهزام الإسلاميين وانتصار اللائكيين، بما يفيد تبني الشعب التونسي المشروع العلماني، وهذا نهج خاطئ في الرصد السياسي للعملية الانتخابية، فإذا ما حاولنا حصر القرار الشعبي، انتخابياً أو ثورياً في البعد الشعبي، فأولى الإرادات الإيديولوجية التي سنكون مجبرين على تأكيدها هي أن تونسيين، بخروجهم على بن علي العلماني، وإطاحته، يكونون قد أعادوا العلمانية! وهذا غير صحيح، فالخروج والانتفاضة الشعبية الكبرى التي أزاحت بن علي عن الحكم كانت سعياً خلف استعادة كرامة شعب، واسترجاع سيادته من القبضة الديكتاتورية، مهما كانت خلفياتها، والمطالبة بحقه في الرفع من مستوى العيش، واليوم وبحكم ما قدّره المواطن التونسي من عدم توفيق الترويكا، أو السلطة التي ورثت التحول، وعملت جاهدة على استيعاب رداته، انتخب لصالح المعارضة التي لا أحد يضمن نجاحها، أو يستبق الأمور بالحكم بالفشل عليها، في العمل على تنمية المجتمع. من هنا، يظل حتمياً الاشارة إلى خطأ القراءة الأيديولوجية لبعض وسائل الإعلام لإفرازات العملية الانتخابية في تونس.

بقيت إشارة، أو إشادة بالأحرى، بالتجاوب المميز للسلطة في تونس مع نتائج الانتخابات وعدم لجوئها إلى التزوير، والأكثر من ذلك قبولها العودة إلى فضاء المعارضة، من دون مكابرة، وهو سلوك متحضر ينبغي أن يكرس، ويُرقى إلى منزلة التقليد الدائم، مع الحرص الشديد على أن يبقى الحذر محيطاً، وبشكل دائم ومستمر، بالعملية السياسية في تونس، لأن المال لبس حلة الترغيب، وحل، بالتالي، محل الترهيب الذي كانت تمارسه السلطة الاستبدادية السابقة، وهذا ما أردنا به القول، آنفاً بخطر الانبعاث الاستبدادي المحدق بالعهد السياسي الجديد لتونس التغيير.

EE8B5179-E92C-4A0A-9E0F-39AFC92FE39E
بشير عمري

كاتب وصحفي جزائري، يكتب في نقد الخطاب السياسي والفكري، وصدرت له من الكتب "حول السقوط وأزمة الخطاب السياسي بالجزائر" و "العودة من بعيد"، و"ريح آخر الليل".