رأس مال اجتماعي أم بوابات هدر في سورية؟

رأس مال اجتماعي أم بوابات هدر في سورية؟

26 اغسطس 2018
+ الخط -
تناول الكاتب مضر الدبس، في مقال نشر في "العربي الجديد" (20 /8 /2018)، تحت عنوان "رأس المال الاجتماعي السوري، التشظّي والانحراف" مسألة في غاية الأهمية للمجتمعات عموماً، وللمجتمع السوري خصوصاً، كونه يمرّ بمرحلة إعادة إنتاج لذاته، وتضمن المقال تحليلاً دقيقاً للمجتمع السوري في مرحلته الراهنة. ولأهمية الموضوع، ورغبة بفتح باب الحوار حوله، من المفيد مناقشة بعض النقاط في المقال.
على الرغم من أن المصطلح الذي استخدمه الكاتب "رأس المال الاجتماعي"، من الناحية العلمية في حقل علم الاجتماع، قد يحمل مدلولاً سلبياً أو إيجابياً، تبعاً لكيفية استهلاكه واستثماره، فإن كلمة رأس مال اجتماعي ستحيل القارئ غير المتخصص، بشكل تلقائي، إلى القيمة الإيجابية وحدها، فرأس المال الاجتماعي، كما أشار الكاتب نفسه، هو قيمة تراكمية نتيجةً لتقوية شبكات الثقة التي يبنيها البشر فيما بينهم، ومدلول مصطلح رأس المال، اقتصادياً كان أو اجتماعياً، يحيل في ذهن المتلقي إلى قيمة مادية، أو معنوية، يمكن الاستفادة منها، فهي تحمل معنى الغنى الذي يرتبط في الذهن بالنفع، والإيجاب، بينما نحا المقال إلى تصنيف المجتمع السوري إلى زمر ومجموعات، وإن كانت تبدو مترابطةً فيما بينها إلى حدّ ما. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الترابط لا يشكل قيمة إيجابية يمكن استثمارها إيجابياً، بل على العكس تماماً، يعود هذا الترابط، في أساسه، واستعمالاته، إلى عصبيةٍ بالمعنى الخلدوني، ويتحوّل إلى صراع عنيف على أرض الواقع، خصوصاً في المرحلة الراهنة من تاريخ سورية. وهنا لا يريد هذا المقال أن يظلم الكاتب، فقد أشار بوضوح إلى نوعين من رأس المال الاجتماعي، أحدهما يمكن أن يشكّل رافعة للمجتمع، وضمانة للسلام، بينما يمكن للآخر أن يكون سبباً للموت، والصراع، ولكن إطلاق تسمية رابطة، أو عصبية، قد يكون الأنسب في حالٍ كهذه.
انطلق الكاتب بعدها إلى تحليل المجتمع السوري، وتصنيف مكوّناته الحالية، بناء على هذه العصبيات، أو "رأس المال الاجتماعي". وإذ أتفق معه في هذا التحليل الدقيق للمجتمع 
السوري، "مع التحفّظ على إغفال الرابطة العشائرية"، وبعض الروابط الأخرى، كالمناطقية، أو المدينية، إلا أن هذه الزمر التي أشار إليها لا تتمتع بالمستوى نفسه من الترابط من جهة، كما أنها مخترقة، ومتشابكة، في مواضع أخرى.
كان مضر الدبس دقيقاً في تناوله "رأس المال الاجتماعي العلوي السياسي"، وهو ليس حكرًا على العلويين، ولا يشملهم جميعًا، بل هو رأس المال الذي يستند إلى اختطاف الطائفة العلوية واحتلالها، ثم إضافة محتواها بعد الاختطاف إلى المنظومة الأمنية، الأمر الذي يبني عصبية الطغمة الحاكمة. .. وهذه الظاهرة ليست جديدة في سورية، بل كانت تطفو على السطح في معظم المراحل الحرجة، أو الانتقالية التي مرّ بها المجتمع السوري، كما حدث أيام الاحتلال الفرنسي، على سبيل المثال، حيث كانت المارونية السياسية في لبنان تشكل نموذجاً أو مثالاً يبدو قريباً من طموحات هذه الفئة من السوريين، في مراحل متعدّدة من تاريخهم.
في تناوله رأس المال الإرهابي، لم يستوف الكاتب هذه الكتلة، بل اكتفى بصورة عامة، كمراقب بعيد، إذ يظهر الواقع السوري، خلال السنوات السبع الماضية، بوضوح أن هذه الكتلة لا تشكل كتلة واحدة مترابطة، (وإن كانت تبدو كذلك من خلال التقارب أو التطابق في شعاراتها ووسائلها) لكنها في الحقيقة كانت متناقضة إلى حد بعيد فيما بينها، وتشهد على ذلك الصراعات الدائمة، والعنيفة، بين الفصائل الإسلامية المتشدّدة في سورية، والتكفير المتبادل، والمعارك الدموية التي حدثت فيما بينها، فلا يمكن لأحد أن يغفل المعارك التي جرت بين جيش الإسلام، وفيلق الرحمن، أو الصراعات المتتالية بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية إلى ما هنالك من معارك دفع السوريون ثمناً باهظاً لها.
قد يكون تناول الكاتب رأس المال الاجتماعي المغلق أكثر قرباً من الواقع أيضاً، كما في حالة رأس المال العلوي السياسي، خصوصاً إذا فهمنا أن الكاتب لا ينطلق، أو يرغب بتقسيم المجتمع على أساس الطوائف، بل يتناول الروابط الموجودة في هذا المجتمع، من منطلق تحليلي، وليس لغاية تصنيفية.
يجب ألا تجعلنا هذه الصورة السوداء للواقع السوري نغفل عن الأسباب التي كانت وراءها، ومن المفيد أن نتذكّر دوماً أن الإنسان، والمجتمع أيضاً، يسعى عادة إلى تضخيم العنصر المهدّد من هويته، وكما نعلم جميعاً، فقد سعت السلطة الحاكمة في سورية دوماً إلى إظهار المجتمع 
السوري وكأنه فئات متصارعة، يتربّص كل منها بالآخر. وكل منها يهدّد بقاء الآخر، بدءا من اتهاماته الكرد بالانفصالية، إلى التخويف الدائم للأقليات من "حكم سنّي"، فضلاً عن خطاب الترويع بين الريف والمدينة، ما منع الشعب السوري من التعرّف على ذاته، وإنتاج الحالة السياسية المتقدّمة، ليكون شعباً بالمعنى السياسي الحديث، فضلاً عن غياب الدولة بمفهومها العصري، وغياب المواطنة، وغياب الفرد، لصالح الجماهير وغياب المؤسّسة، لتحلّ محلها الطائفة، تضاف إلى ذلك كله حداثة عهد الدولة السورية، بحدودها السياسية الحالية، وغياب أي مشروع وطني، يعطي الاعتبار والقيمة لهذه الدولة، فقد عاش السوريون، منذ نشوء هذه الدولة، في ظل أيدولوجيات تنظر بعين الاحتقار لهذا "القطر" الذي اعتبر مسخاً عائقاً أمام تحقيق الدولة العربية المنشودة، أو الدولة الإسلامية المنشودة.
يضيف الكاتب، أخيراً، رأس المال الوطني رأس مال اجتماعي قابل للاستثمار، على الرغم من المصاعب التي تواجهه، وهو محقٌّ بذلك، فهذا تماماً ما يمكن تسميته رأس مال اجتماعي حقيقي، أما كل ما قبله من عصبيات فهي ما يمكن تسميتها وسائل النزيف، والاستهلاك، والهدر لرأس المال الاجتماعي. ويقترح لمراكمة رأس المال الوطني، بناء المؤسسات السياسية، المدنية، وهو محقٌّ في ذلك أيضاً، ولكني أعتقد أن الخطوة الأولى، وقبل كل شيء، هي التصالح مع سورية وطنا حقيقيا، ونهائيا للسوريين، وعدم اعتبارها ابنا غير شرعي للتاريخ، ومنتجا استعمارياً. لا بد أن نرى في الدولة السورية مشروعاً نسعى إلى تحقيقه، لا عقبةً في طريق أوهامنا العروبية، أو الإسلامية، أو الكردية...
72E2ACCA-1690-4550-BAFE-571FF2FE7381
72E2ACCA-1690-4550-BAFE-571FF2FE7381
عمر حدّاد
عمر حدّاد