دمار نفسي غير قابل للترميم

دمار نفسي غير قابل للترميم

17 اغسطس 2020

(فاتح المدرس)

+ الخط -

بديهي جداً أن نفرح بالبدايات في أي علاقة جديدة. تلك هي طبيعة الأمور، ذلك أنها تنطوي على مقدارٍ كبير من الانخطاف والدهشة والجمال والرغبة في الاكتشاف. لذا، تجد الواحد منا مفعما في البداية بالطاقة والحيوية والإقبال على الحياة والرغبة في نيل القبول، فيبذل جهودا كبيرة للتمسّك بأسباب السعادة المرتبطة بالطرف الآخر الذي سيصبح مركز الكون، ومحط الاهتمام، ومبرّر الوجود، والملاذ الآمن، ومبعث الرضا الدائم. نتصالح مع أنفسنا عندها، ونعتقد أننا بلغنا أقصى الأماني وأكبر الطموحات بوجود توأم الروح قريبا، وهو الذي يشبهنا ويفهمنا، ويدرك أوجاعنا، ويمنحنا الأمان واليقين والأمل، فنصدّق، في لحظة طيش، أن الحياة جميلة وحنونة وسخية، نعطيها الأمان غير عابئين، ونعيش اللحظة إلى منتهاها، مطمئنين إلى صدق المشاعر وقوتها وقدرتها على تلوين أيامنا بالبهجة. وينعكس ذلك التحقق النفسي على حراكنا في الحياة، لنخوضها بثقة وقوة وتمكّن، نحقق فيها النجاح، محصّنين بقرب الشريك الداعم والمعزّز والمحفّز على مزيد من الإنجاز. ونصنّف أنفسنا من فرط السذاجة بالسعداء المحظوظين، ونشرع في التخطيط لمستقبلٍ مشرقٍ بقرب الحبيب، باعتباره العنوان الحصري لمبرّرات التمسّك بالحياة، والسعي إلى الحصول على أفضل شروطها، لكنها، ومن عز اليقين بجدواها، توقظنا بصفعاتٍ متتالية، تقرّعنا على كمية البلاهة التي تجعلنا ننسى أنها محض كذبة، وأن كل شيء زائل، وأنها "باطل الأباطيل"، وسرعان ما تجرّدنا من كل شيء، وتتركنا على قارعتها مهزومين، يستولي علينا اليأس والقنوط والإحساس المرير بالخسارة والفقدان. 
ولكن هل نتربّى؟ هل نتعلم من دروس الخيبة السابقة؟ هل نتّعظ من كل ما مضى؟ على الأغلب، إننا لا نفعل، ولا نستفيد قيد أنملة من دروس الحياة القاسية، فنكرّر الحماقات ذاتها بالأسلوب الأحمق المندفع عينه. وفي النهاية، نقعد ملومين محسورين غير مأسوف علينا. والحقيقة أن الأمر يتجاوز علاقة الحب التقليدية بين المرأة والرجل، حيث المدّ والجزر، لينصرف إلى علاقات الصداقة، وهي الأكثر إثارة لخيبة الأمل، عند اصطدامها بلحظة النهاية وإعلان الوفاة. نُصاب بالخيبة والغضب والندم على ما قدّمناه لأشخاصٍ، توهمنا أن صداقتهم من حقائق الحياة، ثابتة راسخة، لا تطاولها شائبة، ذلك أن الصداقة هي أكثر العلاقات الإنسانية تركيبا وصعوبةً وحريةً واستقلاليةً ونديةً، وهي تعبير واضح عن رغبتنا وإرادتنا. نقبل عليها بملء إرادتنا الحرّة الواعية، غير الخاضعة لتأثيرات قرابة الدم أو الانجذاب المضلل والضروري.
تسمو علاقة الصداقة بين الرجل والمرأة على كل الاعتبارات، وتمنحنا كثيرا من التوازن النفسي والإحساس بوجود السند الذي يعيننا على قسوة الأيام، وتعلّمنا مهارة الاستماع ومعنى الثقة بالآخر، وجماليات الحب غير المشروط والعطاء المتبادل والتخلص من الأنانية، وهي تُنجينا من براثن الوحدة، وتضفي على حياتنا قيمةً ومعنى. لذلك تتطلب كثيرا من الرعاية والاعتناء والتجديد والقبول بالآخر كما هو، بفضائله وعيوبه، وتتطلب منا احترام مزاجه ومساحته الشخصية، غير أن كثيرين منا يستهينون بهذه العلاقة الاستثنائية غير القابلة للحدوث بسهولة، فيعتبرها تحصيل حاصل، ولا يبذل أي جهد يذكر في سبيل الإبقاء عليها. وهناك من يخون العشرة، ويجحد عطاء الصديق وتفانيه، فتموت الصداقة، وتخلّف في النفس حالةً من الحزن يصعب تجاوزها، نادرا ما تنتهي بشكل ودّي، بل تخلّف وراءها دمارا نفسيا كثيرا غير قابل للترميم. 
النهاية نقيض البداية، وهي دائما قبيحة ومحمّلة بالخيبة والأسى. ونحن على الرغم من مضيّ العمر حثيثا نحو النهاية، لم نتعلم بعد كيفية التعاطي معها بحيادية أكبر، باعتبارها مصيرا حتميا. وربما علينا، والحال هذه، أن لا نحزن ونتأسى كثيرا، بل نحاول التروّي والتفكير طويلا، قبل الشروع في صداقة حقيقية، على أن ندرك، قبل ذلك، حجم الجهد الكبير المطلوب منا، لحمايتها من تحولات الحياة، غير المتوقعة والصادمة في أحيانٍ كثيرة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.