درنة

درنة

02 يونيو 2015
+ الخط -
الكلب الذي يحرس المنزل الذي أقطن إحدى غرفه في الآلب، أعمى. هو تقريباً كذلك. ثمّة درنة في عينه اليسرى، بلون الجفن، وهي تتدلّى إلى الخارج بشكلٍ ملحوظ كما لو أنها دمعة ضخمة، ويمكنك أن ترى من خلالها بعض الشرايين الصغيرة التي تنبض. لكن الدرنة تؤثّر على كلتا عينيه ولن يفيد استئصالها. الكلب في طريقه إلى فقدان البصر كلياً. والمسألة مسألة أيام. كما أنه عجوز، وبالكاد يستطيع النهوض حين يقترب المرء منه. لكنه يبذل جهداً. جهد كبير بالفعل في كلّ مرة. ولا يفلح في أن يقف إلا بعد أن تكونَ فركتَ وبره على سبيل الشفقة، وتجاوزتَه وأوشكتَ أن تدخل باب المنزل الرئيس. عندها، تلتفتُ نحوه وأنت توشك على إغلاق الباب، فيسدِّد لك تلك النظرة التي تقول "لا تتركني هنا" أو "اصطحبني معك إلى داخل المنزل" أو حتى "خبئني في غرفتك". نظرة بأكثر من معنى. ولا تعرف بالتحديد مغزاها. كنظرات الكلاب جميعها. أعني، تلك الكلاب التي ترى بشكل سليم. وتقفز وتعوي وتلاعب الأطفال. لكن، لا أطفال هنا. أنا أصغر المستأجرين. أصغر سناً حتّى من الكلب نفسه. لذلك فإنه يعاملني كطفل. يهزّ ذيله المنهك متظاهراً بأنه فَرِحٌ بكلّ ما أقدمه له، حتّى ولو كان تفاحة مسلوقة. ماري، السبعينية صاحبة المنزل، تلاحظ اهتمامي بالكلب. حسناً، اهتمامي المصطنع. فأنا أبذل جهداً. جهد كبير بالفعل في كلّ مرة. أقف عند الكلب برهة كلّما عدتُ إلى المنزل، محاولاً ألا أنظر إلى الدرنة. أغمض عينيَّ بل وأتمنى لو كان بصري ضعيفاً فعلاً، من دون أن تكون لي درنة بحجم دمعة ضخمة طبعاً، وألامس وبر الكلب بيدي، مبتسماً بعصبية وعلى سبيل الحيطة أيضاً. فلربما هناك شخص يراقبني من مكان ما، ماري مثلاً، لذلك عليَّ أن أبدو لطيفاً. الدرنة في الحقيقة تثير توتري وعليّ أن أقول، اشمئزازي. وحين أصعدُ إلى غرفتي، أتجه فوراً إلى الحمام لأغسل يديَّ جيداً بصابونة زيت زيتون أحضرتُها معي من تونس. وفي إحدى المرات أصبتُ بنوبة هلع "panic attack".

اقرأ أيضاً: يون كالمان ستيفنسن على الكاتب أن يكون متشكّكًا

ماري تلاحظ بأنني بدأتُ أسرقُ التفاح من الحقول المحيطة بالمنزل. كلّ يوم أدخل حقلاً وأسرق تفاحة. تفاحة واحدة فقط. لكن الأمر يستغرق مني وقتاً طويلاً، على الرغم من وفرة الحقول حولي. ذلك أن على التفاحة المسروقة أن تكون مستديرة تماماً وطريّة، ككرة عجين. لقد فكرت ملياً بالأمر. وسوف يناسبني أكثر أن ألاعب الكلب من مسافة ما، بدل أن أضطر للمسه. لم أكن أعرفُ بعد أن الكلب شبه أعمى. وصرتُ كلّما وصلت المنزل، أكرِّج التفاحة مباشرة نحوه لأنه لا يستطيع النهوض، والحيلة تنجح ما دمتُ طفلَهُ. في اليوم الأول، استقبل الكلب التفاحة بحبور لكنه عجز عن إدخال أسنانه فيها. فصرتُ أسلقُ التفاحة المسروقة في كلّ مرة قبل دحرجتها باتجاهه. حدث هذا لثلاثة أيام متتالية. وفي اليوم الرابع استوقفتني ماري، وسألتني إذا كنتُ قد انتبهتُ للكلب. جاوبتُ ممازحاً "طبعاً. هل تحسبينني أعمى؟". فقالت "أعني هل انتبهتَ أن الكلب أعمى؟"، فارتبكت، أصبتُ بالاحراج وحاولتُ أن أبتسم بلباقة. أخبرتني بأنها لا تمزح وأن المسألة مسألة أيام قبل أن يفقد الكلب بصره كلياً، وأن التفاح لا بدّ أن يكون قد ساهم في زيادة عماه، بسبب احتوائه السكر. ثم قالت لي "أنت تبالغ باهتمامك بالكلب. لا داعي لكل هذا". تبادلنا يومها حديثاً قصيراً. ماري ألمانية. تعتبر نفسها كذلك. لكنها تحمل الجنسية الإيطالية فقط. في الحرب العالمية الاولى، استولى الطليان على هذا الجزء وضموه. قالت لي "أنتَ من الشرق الأوسط إذن! لا بدّ أنك شهدتَ فظاعات، ورؤية كلب ينفق ليست أكثر من مسألة تافهة الأهمية بالنسبة لك". لم أقل لماري إنني وأنا صغير، كان عندي كلب. كان وديعاً. اشتراه أمي وأبي جرواً في عيد زواجهما الأول. كنت أدخل ذراعي النحيلة حتى الكوع في جوفه، وأُسقِطُ عيدان الكبريت في معدته من دون أن يحرك ساكناً. كنتُ طفلَهُ. في الحرب، كانت عيدان الكبريت أكثر وفرة من الطعام. والكلب، مع شجارات أبي وأمي المستمرّة، بدأ جسمه يجفّ. كانت له تلك النظرة أيضاً، التي بأكثر من معنى. وكان يثبِّتُها عليّ وأنا أدسّ في معدته المزيد من عيدان كبريت. إلى أن فقد وبره وتفسَّخ جلده بالكامل فأصبح في نهاية الأمر كلباً من عيدان الكبريت. ولم يعد بإمكاني تحريكه من مكانه. كي لا ينفرط. فبقيت إلى جواره. حتى انفجرت أوّل سيارة مفخخة، فانفرط بسبب الارتجاج. عندئذ جمعتُه في مرطبان بلاستيكي وحملته ورميناه في البحر، لأن كلباً من عيدان الكبريت لا يمكن أن يغرق. لكننا عرفنا لاحقاً أن المرطبان انفجر بعد ملامسته للغم مائي قريب، وأن عيدان الكبريت تطايرت فوق الماء ملتهبة جميعها في الوقت نفسه. لكن كلّ عود منها كان يطلق صوت عواء صغير وهو يحترق.
الآن، ماري تطلب مني أن أسدي لها خدمة. أن أساعدها في قتل الكلب. علينا أن ننتظر بضعة أيام أخرى، حتى يصبح أعمى كلياً، تقول. "لو كان ابني هنا لما طلبتُ منك ذلك، لكنه ذهب إلى ميونخ لحضور مباراة كرة قدم، وسيعود بعد أسبوعين، لكن لا يمكنني الانتظار حتى عودته. فالظروف المناخية هذه الأيام مناسبة لقتل الكلب. وحرارة الهواء مثالية لتجفيف جثته". فماري لا تريد فقط قتل كلبها، بل تحنيطه أيضاً. تقول لي بلهجة آمرة بأن أثقب التفاح بالإبرة من عدة جهات وأغليه في مياه مشبعة بالسكر، لأن هذا يجعل التفاح أكثر حلاوة ويسرّع من عمى الكلب.

اقرأ أيضاً: علبة مربّى

بعد أيام، وأنا أهمّ بدحرجة تفاحة مسلوقة وبحلاوة المربى، للكلب، يستوقفني صوت ماري من نافذتها. "لا داعي لهذه التفاحة. لقد قضي الأمر. صار أعمى كلياً هذا الصباح. الأفضل أن ننفذ قتله بعد الغداء". لكني أشعر أن ماري تكذب. حين أقترب من الكلب، يسدِّد لي تلك النظرة نفسها التي تقول "لا تتركني هنا" أو "اصطحبني معك إلى داخل المنزل" أو حتى "خبئني في غرفتك". ما يجعلني أشعر بسوء. أنا فعلاً لا أرغب في قتل الكلب، إلا أنني في النهاية أذعن للمرأة. أقول لنفسي "حرام أن نتركه هكذا". وبعد الغداء، نكون ثلاثتنا في حقل تفاح قريب ورثتْه ماري عن جدِّها. تناولني مسدساً قديماً من مخلفات الحرب العالمية الاولى. "عليكَ أن تسدِّد هنا. فتستقر الرصاصة الصغيرة في القلب وتذيبُه. لدينا رصاصة واحدة فقط. وعلينا إخراجها من الكلب بعد قتله وإعادتها إلى المسدس. فالمسدس قطعة نادرة، ورصاصته كذلك. ومكانهما الدائم الفاترينة في غرفة الجلوس"، تقول. أصغي تماماً لماري. لكنني بدل أن أنفذ تعليماتها في اللحظة المطلوبة، أجد نفسي أرفع الكلب الأعمى فجأة في الهواء وأهزّه بقوة وبعصبية، آملاً في أن ينفرط إلى أعواد كبريت.
بعد ذلك، أنا لا أتذكر شيئاً. لاحقاً، تخبرني ماري بأنني بعد أن رفعتُ الكلب وهززتُه، أصِبتُ بما يشبه الصدمة العصبية، ففقدتُ الرؤية لبعض الوقت. لكنني رغم ذلك، أصريتُ وبشكل مريب على قتل الكلب. فعادتْ ماري وناولتْني المسدس، وبأم عينها، تقول، شاهدتْ كيف أطلقتُ الرصاصة الوحيدة عليه، بل إنني كنتُ في غاية الدقة رغم نوبة العمى التي كنتُ مصاباً بها. كنتُ سلساً وواثقاً كقاتل كلاب منزلية متسلسل. هذا ما تقوله ماري. أما أنا، وأعرف أن الأمر سخيف، فلا أملك إلا أن أفكر بأن نوبة العمى التي أصبت بها، جاءت في الوقت المناسب، فقط كي لا أضطر للنظر إلى الدرنة وأنا أقتل الكلب.

المساهمون