داعش ونظرية المؤامرة

داعش ونظرية المؤامرة

02 يوليو 2015
لم يسيطر التنظيم في العراق إلا على المناطق السنية(الأناضول)
+ الخط -
منذ ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" إلى مسرح الأحداث، تعددت الروايات حول نشأته وتطوره في العراق ثم سورية، كما تعددت النظريات حول مصادر تمويله وولائه الحقيقي واستراتيجياته التي يتبعها في مناطق تواجده.


وبعد سيطرة التنظيم على مدينة الرمادي في العراق، وتدمر في سورية، قال العديد من مناصري التنظيم إن هذا يثبت فشل نظرية المؤامرة، والتي تقول إنه تنظيم استخباراتي لا يهاجم النظام السوري إلا نادراً، ويعمل على تقويض الثورة السورية وإفشال الحراك السنّي في العراق.

والحقيقة أن هذه التطورات لا تثبت فشل هذه النظرية أو نجاحها، ذلك أن الأمور أعقد من هذه النظرة السطحية.

فليس شرطا أن يكون التنظيم عميلا لأجهزة مخابرات بالصورة الساذجة التي يتصورها بعضهم، فلا أحد يقول إن البغدادي مثلاً عميل يتلقى أوامره من ضابط مخابرات غربي. وقد يكون فعلاً تنظيماً مستقلاً في نشأته، لكن هناك ما يسمى "التوظيف"؛ أي استغلال كيان ما ودفعه نحو اتخاذ قرارات معينة، يتصور قائدها أنها مستقلة وتصبّ في مصلحته، بينما هي في النهاية تصبّ في صالح آخرين.

أبرز مثال على ذلك عقيدة تنظيم الدولة نفسه، والتي يطبقها في كل مكان يحل به، وهي تقول بأولوية قتال المرتدين على الكافرين الأصليين. وبالتالي فإن معظم مناطق سيطرة التنظيم في سورية مثلا كانت مناطق محررة في الأصل، لكن التنظيم انتزعها من "المرتدين" الذين يشملون كل من لا يوافق على سياستهم ويبايع خليفتهم، من الجيش الحر مروراً بأحرار الشام وانتهاء بجبهة النصرة. وكانت "تدمر" هي المدينة الأولى على الإطلاق التي ينتزعها التنظيم من النظام السوري وليس من المعارضة. وبعد سيطرته على المدينة عاد التنظيم إلى سيرته الأولى وهاجم مناطق سيطرة المعارضة في ريف حلب.

نفس هذه الاستراتيجية الغريبة نجدها في العراق، إذ لم يسيطر التنظيم إلا على المناطق السنّية، وتجنّب القتال إلا في مناطق شيعية قليلة، كما تجنب التقدم إلى بغداد، وكان لافتا أنه عقب سيطرة تنظيم الدولة على الموصل ومناطق شاسعة أخرى من العراق العام الماضي، ترك جبهة بغداد فجأة واستدار ليضرب الأكراد في كركوك وأربيل بصورة غير مفهومة. وأشعل جبهة لم يكن لها أي داعٍ، وهو الأمر الذي أدى إلى تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لقتاله. ولم يؤثر هذا القرار على أنصاره الذين يقتنعون بكل ما يقال لهم من مبررات "شرعية".

هذا الأمر نجده في ليبيا أيضاً، إذ يقاتل التنظيم قوات "فجر ليبيا" التابعة للمؤتمر الوطني في جبهات عديدة، بعد أن كانت الأخيرة على وشك حسم القتال ضد قوات حفتر التابعة للبرلمان المنحل في طبرق، ويقوم منتسبو التنظيم بعمليات انتحارية عديدة في سرت وطرابلس معقل المؤتمر الوطني العام. والحجة الجاهزة لدى أنصار التنظيم أن "فجر ليبيا" اتفقوا مع "حفتر" لقتالهم، طبعا لا تسأل عن دليل لهذا الكلام فكل ما يقوله التنظيم لهم هو حقيقة مطلقة، حتى إنهم يقاتلون مسلحي تنظيم أنصار الشريعة المرتبط بتنظيم القاعدة أيضا.

وفي فلسطين، أصدرت "جماعة أنصار الدولة الإسلامية في بيت المقدس" الموالية لداعش في غزة، بيانا منذ أسابيع، أعلنت فيه بكل فخر أنها نجحت في قصف موقع عسكري.. ولكن تابع لكتائب القسام! التي سماها البيان "عصابة القسام"، تاركا إسرائيل التي تقع على بعد كيلو مترات قليلة سالمة من قذائفه.

حتى كيان مثل القسام التي تقاتل إسرائيل منذ سنوات، وخاضت حروبا عديدة معها، لم ير التنظيم فيها إلا مجموعة من "المرتدين" الذين يجب قتالهم أولا، فإذا انتصر عليهم سيبدأ في قتال إسرائيل. وغني عن القول إن الصراع في معظم الحالات التي ذكرناها من المتوقع أن يستنزف الطرفين ويضعفهما في المعارك المتبادلة لسنوات..

يشرح أحد أنصار التنظيم على شبكة الإنترنت هذه الفلسفة بوضوح معلناً تأييده لها، يقول: "الدولة الإسلامية ستعبر فوق جثث عملاء إسرائيل إلى إسرائيل، فلن تحارب اليهود وظهرها مكشوف لأنظمتهم وصوفيتهم وشيعتهم المجوس وإخوانهم من خونة الإخوان"؛ يقصد حماس.

أما في مصر، فيعتبر التنظيم أن مرسي "طاغوت مرتد" وجماعة الإخوان المسلمين "كافرة مرتدة شر من الكفار الآخرين"؛ لأنهم بحسب قولهم "يتسترون بالدين". وبالتالي إذا دخلوا مصر فإن مرسي وإخوانه هم من سيبدأون بذبحهم لا السيسي وأعوانه. وقد أوضح "أبو صهيب الليبي" هذا الأمر بوضوح في فيديو مصور بثته مواقع جهادية بعنوان "رسائل من أرض الملاحم"، قال فيه إن أول من سيبدأ بقتله تنظيم الدولة الإسلامية، حال دخوله مصر، هو الرئيس المعزول محمد مرسي، "الطاغوت والمجرم الأكبر، لأنه كان يتمسح بالدين" بحسب وصفه.

سياسة التنظيم امتدت حتى إلى أفغانستان، بعد إعلانه إقامة فرع له في البلد المحتل من الولايات المتحدة تحت مسمى "ولاية خراسان"، لكنه ترك كل شيء وبدأ يهاجم مقرات حركة طالبان واغتيال قادتها، وهو ما دعا طالبان إلى إعلان مواجهة التنظيم والقتال ضده.

دائماً ما تتهم قناة الجزيرة الفضائية بدعم الحركات الإسلامية والانحياز لها في تغطياتها، واستخدم هذا الاتهام ذريعة للهجوم عليها لدى المشاهد العربي والإيحاء بذلك حتى يسهل ضرب ثورات الربيع العربي التي تعتبر الجزيرة أحد أهم مناصريها، لكن داعش يرى غير ذلك، ويعتبر الجزيرة هي الخطر الأعظم، وليست القنوات التي تساند الثورات المضادة، وظهر شعار القناة في أحد أفلام التنظيم في المرتبة الأولى عندما جاء الحديث عن "الإعلام المعادي".

وكان لافتا أن تهاجم مجلة "دابق" الصادرة عن التنظيم مدير قناة الجزيرة الإخبارية "ياسر أبو هلالة"، و"وضاح خنفر" المدير السابق لشبكة الجزيرة، دونا عن بقية الإعلاميين، وحرضت بشكل واضح على القناة والصحافيين العاملين فيها، وهي وجهة نظر مكملة لرؤية التنظيم لباقي الكيانات في المجال السياسي والعسكري.

ضاقت المعركة إذن، من قتال الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى قتال الشيعة، حتى انتهت إلى قتال "المرتدين" من السنّة أنفسهم.

أما جمهور التنظيم فهم لا يتوقفون عن تبرير تصرفاته، مثلما حاولوا تقديم مبررات للهجوم على مخيم اليرموك وقتل عدد من أفراد كتائب "أكناف بيت المقدس" التابعة لحماس.

قال جمهور التنظيم في البداية إن السيطرة على المخيم مقدمة للسيطرة على العاصمة دمشق، ثم غيروا رأيهم وقالوا إن الهدف توزيع المساعدات الغذائية على سكان المخيم المحاصرين، واتهموا كتائب أكناف بيت المقدس بتخزينها ومنعها عنهم. ثم تحدثوا عن فك الحصار الذي تضربه قوات بشار الأسد عن المخيم، لكن التنظيم في الحقيقة لم يقاتل إلا الفصائل الفلسطينية داخل المخيم وترك النظام يحاصره من الخارج ويقصفه بالطائرات، حتى وصل عدد السكان داخل المخيم إلى 6 آلاف شخص فقط، بعد أن كانوا قرابة 18 ألفاً.

بعد كل هذه المحاولات التبريرية انسحب مقاتلو التنظيم من المخيم، فلا بدأوا معركة دمشق مع النظام، ولا فكوا الحصار عن المخيم، ولا أطعموا سكانه. في سيناريو مكرر لما حدث في مدينة عين العرب - كوباني، والتي تحولت لأسابيع إلى أهم مدينة في العالم، وبعد الفشل في السيطرة عليها، خرج "العدناني" المتحدث باسم التنظيم، ليقول إنهم دخلوا المدينة حتى يقوم طيران التحالف بتسويتها بالأرض. مرة أخرى لا تسأل عن الهدف من وراء ذلك فالجمهور أشاد بهذا التخطيط العبقري.

جانب آخر من الصورة مرتبط بأولويات واستراتيجيات التنظيم، إذ يركز بشكل كبير على ضرورة الاستيلاء على الأرض لإقامة دولته عليها، وليس مجرد "تحرير" السوريين والعراقيين ورفع الظلم عنهم، ويرجع هذا إلى مركزية ومحورية ضباط البعث السابقين في التنظيم، ويمكن ببساطة ملاحظة التشابه الشديد بين أساليب داعش في تعذيب وقتل أعدائه، وبين أساليب التعذيب في عهد صدام حسين، والتي تشمل قطع الأيدي والألسن والإلقاء من أسطح البنايات.

حتى نظرية العمالة التقليدية لا يمكن استبعادها كليا، لسبب بسيط، وهو الخبر الذي طالعتنا به الصحف في أغسطس/ آب من العام الماضي، عن قيام تنظيم الدولة بذبح أحد أبرز قادته "أبو عبيدة المغربي" بعد اكتشاف عمالته لجهاز المخابرات البريطانية. وكان المغربي يشغل منصب رئيس الجهاز الأمني التابع للتنظيم، وأحد أبرز المتشددين تجاه فصائل المعارضة الأخرى والداعية لقتالهم بلا هوادة.

كل هذا لا يساوي شيئا أمام ما يقوم به التنظيم تجاه من يفكر في معارضته أو الخروج عليه أو الاعتراض على سياساته أو يرفض مبايعة البغدادي، عندئذ يكون مصيره أسوأ من مصير معارضي بشار، حتى لو كان يصوم النهار ويقوم الليل ويجاهد ضد إسرائيل مثل حماس، فليس له إلا الذبح والصلب هو وعشيرته كاملة، ولنا في ما قاموا به مع عشيرة "الشعيطات" في سورية و"البونيمر" في العراق عبرة.

وفي النهاية يقول أنصار التنظيم إنه ضحية لحرب إعلامية ظالمة تريد تشويهه، وكأن فيديوهات القتل والذبح تأتي من وسائل إعلام غربية وليست من التنظيم نفسه، والذي يستحل كل شيء ويوجد لها مبررات شرعية، حتى الحرق وإلقاء الأشخاص من المباني العالية وإعدام الأشخاص بالقذائف المدفعية مثلما يحدث في كوريا الشمالية. وأخيراً ابتكر التنظيم وسائل إعدام جديدة في آخر إصدار له، تمثلت في الإغراق وتفجير الرؤوس بالمتفجرات.

إن الدعوة التي يطلقها بعضهم لمساندة داعش لمجرد أن الولايات المتحدة تقود تحالفا ضده، أشبه بما كان يقوله بعضهم سابقا من وجوب مساندة القذافي وصدام حسين والأسد، فقط لأنهم يرفعون شعارات الممانعة والمقاومة ومواجهة المؤامرات الغربية، واتضح في النهاية أنهم كانوا أكبر مؤامرة على الشعوب، ولم يؤد حكمهم في النهاية إلا إلى الخراب.

نتساءل في النهاية هل معنى أن التنظيم مستقل في قراراته ولا يعمل لحساب أحد أنه جيد ويجب علينا أن نثق به ونوافق على ما يقوم به؟ نحن نرفض "داعش" لأن سياسته مرفوضة وأولوياته مختلة ووحشيته فاقت كل الحدود، وكل من ينتمي إليه يعتبر خصمه مباحا وله أن يفعل فيه ما يشاء. في هذه الحالة لا تعنينا كثيرا مسألة عمالة التنظيم أو ارتباطه بأجهزة مخابرات غربية أو شرقية.

(مصر)

المساهمون