داعش ولاية سرت.. بين الولادة والموت

داعش ولاية سرت.. بين الولادة والموت

29 يونيو 2017

قوات لحكومة الوفاق الوطني تواجه "داعش" بسرت (21/11/2016/فرانس برس)

+ الخط -
من أنتم؟ سؤال استفزّ الليبيين الأحرار، وأجاب عنه ثوار السابع عشر من فبراير/شباط في يوم مشهود من أيام ليبيا، عندما قبض فيه الثوار على معمر القذافي في سرت، وأجابوه جواباً سيبقى عالقاً فترة طويلة في ذاكرة كل طاغيةٍ، وذاكرة الليبيين والعالم أجمع، قبل أن يلقى حتفه من رصاصة أطلقها "عشوائي"، واحتلت سرت حينها واجهة كبريات الصحف وعناوين نشرات الأخبار في وسائل الإعلام العالمية، المدينة التي أبصر فيها العقيد النور، وأغمضت فيها عينُه عن النور، دفعت فيما بعد أثمان ذلك السؤال.
بعد سنوات قليلة، تعود سرت إلى واجهة الاهتمام المحلي والدولي، وذلك مع إعلان تحريرها من سيطرة تنظيم أبوبكر البغدادي، الإرهابي الذي أعلن ضم المدينة لدولة الخلافة المزعومة في وقت سابق، مع ظهور مجموعاتٍ بايعت التنظيم في مدينةٍ لم يُعرف عنها التشدّد أو التطرّف الديني والانتماء إلى مجموعات راديكالية من قبل. كان ذلك مستغرباً في مدينةٍ لم تعرف يوماً سوى خطابات القذافي وصوره وراياته الخضراء التي انقلبت سوداء، وأضحت خطابات البغدادي وولاته تصدح في المآذن والجوامع، كما كانت تعج الإذاعات وأبواق اللجان الثورية سابقاً بأفكار القذافي ومعاني كتيّبه الأخضر.
كيف تشكل فيها هذا التنظيم؟ ومن أين أتى؟ ولماذا اختار سرت الليبية نقطة تمركز له من دون غيرها؟

مدينة محرّرة وليست ثائرة
كان اختيار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مدينة سرت نقطة تمركز له مدروساً، كون ولاء المدينة كان، في غالبيتها المطلقة، للنظام السابق. وعلينا أن لا ننسى مؤشراً مهماً، إذ إن سرت مدينة محرّرة وليست ثائرة، وكان عدد من التحق بالثورة ضد القذافي من أبنائها قليلاً مقارنة بغيرها، وبالتالي هناك نقمة وحقد من شريحةٍ كبيرةٍ من أهلها على التغيير الذي حدث في السلطة، والذي نزع منها النفوذ الذي كانت تتمتع به إبان حكم القذافي، وما تبع ذلك أيضاً من ممارساتٍ، أو إهمال للمدينة من حكومات ما بعد الثورة، ترك ذلك كله بالغ الأثر في البنية النفسية والاجتماعية للمدينة (برزت مصطلحات تصف مؤيدي القذافي بالأزلام أو الطحالب)، وكان له دور مهم في نكوص سرت عن الالتحاق بليبيا الجديدة، ولاحقاً بروز بيئة حاضنة للتنظيم، أو غير معادية له.
وقد يكون مفيداً هنا تشبيه ما حصل في سرت بما حصل في مدينة تكريت العراقية (مع فرق أنه كانت هناك في العراق قوة احتلال، وليس ثورة شعبية)، مسقط رأس صدام حسين؛ إذ انطلق التنظيم في العراق.
إذاً، تقاطعت مصالح هذه المجموعات المتضرّرة من التغيير الذي حدث إبان الثورة وما بعدها مع مصالح التنظيم الذي كان اختياره سرت ناجماً عن فهمٍ دقيقٍ لحالة المدينة النفسية والاجتماعية الذي ساهمت في حدوثها ممارسات أصحاب السلطة والقوة الجدد، وأيضاً إدراك التنظيم شعور الضعف والنقص الناجم عن فقدان هذه المجموعات نفوذها السابق، فطرح التنظيم نفسه مخلصاً وحيداً (يراه بعضهم اضطرارياً وليس اختيارياً)، أو طُعماً مغرياً لعودة السلطة والنفوذ لهذه المجموعات المتضرّرة التي قد تعيد إلى سرت هيبتها ونفوذها السابقين.

العامل القبلي
كان الدافع القبلي المستشري والمسيطر على سلوكيات المنطقة أيضاً أحد أهم دوافع هذه
المجموعات لاحتضان التنظيم الذي يغذيه الحقد على مصراتة خصوصا (أغلب إن لم يكن كل العمليات العسكرية التي قامت ضد التنظيم في سرت انطلقت من مصراتة، وكانت كتائب مصراتة العمود الفقري لها)، وعلى قبيلة الفرجان التي تنافس القذاذفة في سرت، هذا إذا ما تم ربطه بدافعٍ آخر، وهو معرفة هؤلاء أن كتائب الثوار لن تقبلهم ضمن صفوفها كونهم (أزلاما).
وبالتالي، لن يكون لهم وجود مؤثر في الساحة، وهذا استثار الحقد على الثوار، وعلى مصراتة بالذات، ما جعلهم يختارون الانضواء تحت راية أي جماعةٍ أو تنظيمٍ يفتح لهم الباب، ليعودوا إلى المشهد، ولو في الصفوف الخلفية. وقد وفر التنظيم هذا الأمر، فاستفادوا منه (عبر باب الاستتابة). ومع تقاطع المصالح، وبروز هذه الدوافع، عمل التنظيم على استغلال الجانب القبلي، وبذلك دعم صفوفه بعناصر ليبية كثيرة، وإن كانت لا تؤمن بالفكر العقائدي.

العامل الجغرافي
كان موقع مدينة سرت الجغرافي أيضاً من أهم عوامل اختيار تنظيم الدولة الإسلامية لها؛ إذ تقع في وسط ليبيا، ولها واجهةٌ بحريةٌ كبيرة على المتوسط (شكل هذا قلقاً لدى الأوروبيين مخافة انتقال عناصر أو شن هجمات إرهابية عليهم عبر البحر). بالإضافة إلى أنها مفتوحة من الجنوب على صحراء واسعة شاسعة، يصعب ضبطها. ويوفر هذا الموقع للتنظيم طرق التواصل والدعم بالسلاح والمال والعتاد والرجال من خارج الحدود. وبالفعل، استغل التنظيم حالة الفراغ في الجنوب، والانقسام فيما بعد في ليبيا، واستطاع فتح خط إمدادٍ بشري ولوجيستي ومالي مستمر ومستقر، دعم به قوته وهيمنته، وأخذت تتدفق عليه العناصر التي تعتنق الأفكار نفسها من أصحاب البشرة السوداء الذين يعتقد أن أغلبهم أتوا من إقليم أزواد.

مراحل تشكُّل التنظيم
شكلت مجموعة كبيرة من تنظيم أنصار الشريعة نواة هذا التنظيم، إلى جانب عناصر متشدّدة جاءت من بنغازي ودرنة، إضافة إلى من جاؤوا من خارج ليبيا، ولكن جميع المعلومات تفيد بأن كتيبة ثوار سرت كانت أساس تشكيل هذا التنظيم في المدينة، وهي الكتيبة التي تشكلت إبّان الثورة لمحاربة نظام القذافي، وكانت من بين الكتائب التي دخلت سرت، وتمركزت فيها، وكان من عناصرها أشخاصٌ قاتلوا سابقاً في أفغانستان والعراق وعادوا إلى ليبيا إبّان الثورة.
وقد تطوّرت هذه الكتيبة بعد التحرير إلى ما تعرف باللجنة الأمنية في سرت (تشكلت اللجان الأمنية ضمن محاولة من الدولة لتنظيم الكتائب المسلحة، ودمجها وجعلها تحت سلطة الدولة)، والتي كان فيها شخصياتٌ بارزةٌ من معتقلي سجن بوسليم المشهور إبّان حكم القذافي، وهم من التيار المتشدّد، وقد بايعت مجموعة كبيرة من هذه الكتيبة تنظيم أنصار الشريعة، والذي بايع جزء كبير منه تنظيم الدولة الإسلامية في سرت، بينما التحق من لم يبايع منهم بالقتال في بنغازي إلى جانب مجلس شورى ثوار بنغازي، وغادر آخرون للقتال في سورية والعراق، وبالتالي انتهى تنظيم الأنصار في سرت (كان من أبرز الشخصيات التي لم تبايع الأنصار قيادي يدعى خليفة البرق).
ويُعتقد من معلوماتٍ أن عدداً لا بأس به من عناصر التنظيم ينتمون إلى جنسياتٍ عربيةٍ، عراقية وسودانية ويمنية ومصرية. بينما يعد حاملو الجنسية التونسية الأكثر عدداً وعنفاً في التنظيم، إضافة إلى عناصر أفريقية، وأخرى محدودة من حاملي الجنسيات الأجنبية أحيطوا بسرية تامة، ولكن وثائق عثر عليها أخيرا في سرت أشارت إلى وجود هؤلاء.

مصادر التمويل
اعتمد التنظيم، منذ بداية تشكّل نواته في سرت، وقبل إعلانه البيعة، على مصادر تمويل
مختلفة، فعلى سبيل الذكر، عند تشكل اللجنة الأمنية بداية عام 2012، كانت الحكومة تصرف لهذه اللجان أموالاً ونثرياتٍ تقدر بنحو مائة ألف دينار شهرياً (تعادل حينها نحو 75 ألف دولار)، كما خصصت لهم حينها سياراتٍ وآليات، إضافة طبعاً إلى السلاح والعتاد، إضافة إلى أنهم كانوا يتقاضون مرتباتٍ من معظم قطاعات المدينة، وذلك بالقوة والفرض على المديرين. وفيما يخص العناصر الأجنبية التي في التنظيم، فقد واجهوا معضلة، حيث من الضروري أن يكون المرتب بالرقم الوطني بالنسبة للمواطنين، وقد وجدوا مخرجاً لهذا الأمر، وهو عن طريق تسلم رواتب من شركة الخدمات الخاصة بالنظافة؛ لأن عمال هذه الشركة كلهم من الجنسيات الأجنبية، كالبنغاليين والآسيويين وغيرهما.
كما استفاد عناصر التنظيم جداً مما كانت تسمى "تعويضات سرت" التي خصص لها نحو 500 مليون دينار حينها (نحو 400 مليون دولار)، لتعويض المتضرّرين من المعارك التي دارت في المدينة، أو من الأضرار التي لحقت بأملاكهم أو التعدّيات التي جرت عليهم، كونه كان لهم أقرباء متنفّذون ومقرّبون من نظام القذافي؛ حيث شكّلت العناصر التي بايعت التنظيم فيما بعد ما سميت "لجنة التعويضات الأمنية" داخل المجلس المحلي في سرت، وترأسها شخص متطرّف منهم، وأحاط نفسه بإخوته وأقاربه، فكان يأتيه مواطنٌ معين ليس من بين 300 شخصية التي صدر قرار باسمهم من المجلس الانتقالي، بخصوص عدم صرف أموال لأشخاصٍ تمت مصادرة أملاكهم، كونهم محسوبين على النظام السابق، وأصبحت أملاكه ملكاً عاماً، فإن كان هناك مواطنٌ في عائلته من هم من رجالات النظام القذافي، وقد تدمر منزله، يأتيه تعويضٌ من الدولة بمليون مثلاً، يتقاسمه معه هذا المتطرّف؛ كي يسلمه التعويض. ومن أمثال هؤلاء عثمان ضو، شقيق منصور ضو، وأيضاً أشقاء علي الكيلاني وخميس حميد، وآخرون، وهؤلاء أبناء عمومة القذافي، وبالتالي جمع التنظيم أموالاً طائلة بهذه الطريقة.
واعتمد التنظيم بشكل كبير على تمويل نفسه من خلال عمليات تهريب البشر، فيما يخص الهجرة غير الشرعية عبر الحدود الجنوبية الصحراوية، وشكل نقاط تمركزٍ له على طول الطريق الصحراوي التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيين، قادمين من الدول الأفريقية، متجهين نحو الساحل الليبي على المتوسط، فقام التنظيم بتأمين هذه الطرق للمهربين، وتسهيل نقل مجموعات المهاجرين إلى وجهتهم، كما استفاد من عمليات تهريب الوقود والبضائع والسيارات والأسلحة وغيرها في مناطقه، وعلى طول الحدود الجنوبية.
وكان "داعش" يعتمد أيضاً على ابتزاز الأثرياء في سرت وغيرها، عبر عمليات تهديد أو
خطف أو غيرها؛ لجني أموال كبيرة جداً منهم، دعم بها موارده المالية، كما سلب عناصر التنظيم، في وقت سابق، مبالغ قدّرت بملايين الدولارات، كانت مخصصة لعدة بنوك ومؤسسات مالية في المدينة، ولم تستطع الحكومة حينها استردادها. وتثار شكوكٌ حول وجود دعم مالي ومعنوي من مسؤولين سابقين بارزين في نظام القذافي لهذا التنظيم، من أجل تنفيذ مآرب شخصية، تتعلق بالثأر والانتقام.
إضافة إلى تنفيذ أهداف استراتيجية سياسية تتمركز في زعزعة استقرار ليبيا وأمنها بعد القذافي، وإحداث نوعٍ من الندم على أيام النظام السابق؛ حيث الأمن والأمان، ولا تطرّف أو إرهاب، وقد عبّر أحد أهم رجالات القذافي، وابن عمه أحمد قذاف الدم، بصراحة عن ذلك قائلاً: "أنا مع دولة العراق والشام"، مضيفاً: "إعجابه بالتنظيم وتفهمه للشباب الأنقياء الذين انضموا إليه"، مبرّراً ذلك بفشل حكومات ما بعد الثورة في طرح مشروع بديل لاستقطاب الشباب.
وبعد سرد هذه التفاصيل التي أحيطت بتشكل التنظيم وترعرعه في سرت، ومع تحرير المدينة للمرة الثانية من براثن الطغيان والفساد، تُطرح علامات استفهام مهمة حول مستقبل هذه المدينة وما ينتظرها، وعمّا إذا كان الليبيون سيأخذون العبرة من الأخطاء التي وقعوا بها في الأمس، وتنعم المدينة وأهلها بالسلام والأمان والازدهار، أم أن "لعنة جديدة" سوف تحل بسرت في قادم الأيام؟
915BE925-14AA-479E-A7CB-D4B938E61BAE
915BE925-14AA-479E-A7CB-D4B938E61BAE
عمر الشيخ إبراهيم

كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.

عمر الشيخ إبراهيم