لاءات الهوية في مونديال قطر

لاءات الهوية في مونديال قطر

22 نوفمبر 2022
+ الخط -

لم تدّع قطر يوماً أنّها دولة ذات توجه علماني أو تؤمن بمفاهيم النيوليبرالية التي اتخذت الفرد والأسرة والمجتمع ساحة استثمار أيديولوجي، سياسي، وأحياناً حقوقي، وأعطت كلّ أولئك أولوية على أولوية الإنسان قيمة تتأتى من منظومة القيم والسلوكيات المشتركة القابلة للتطوّر والتعديل من خلال التجربة، لا جعل التجربة منطلقاً ومرجعاً، وإن شابها الانحراف، والسعي إلى تسويقها وتعميمها بدل الاكتفاء باحترام ميول الأفراد الجنسية وضمان حقوقهم وسلامتهم قانونياً. هنا يراد جعل حقوق الأقلية طاغية على حساب الأكثرية، وتعمل بعض الدول على دفع دول أخرى إلى تبنّي هذا التوجّه بمبرّرات حقوق الإنسان التي تظهر وتغيب بحسب المصالح، وغالباً تكون للابتزازين، الفردي والمجتمعي.
كما لم تدّع قطر أنها دولة ديمقراطية بالمعنى العام على أية حال. وبالرغم من ذلك، عملت على تهيئة المجتمع لممارسة الديمقراطية عبر إجراء أول انتخابات تشريعية لمجلس الشورى في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الفائت، وهي أول استحقاق انتخابي يجري في تاريخ الدولة الحديث. واستطاعت قطر اقتناص أدوات ديمقراطية غاية في الأهمية، ربما تؤسّس لتغيير ديمقراطي عام على مستوى الدولة والمجتمع مستقبلاً، بشكل هادئ وتدريجي، بعد غرس قيم وسلوكيات ديمقراطية في الأفراد والمجتمع، من قبيل تقبل الاختلاف في الآراء و تحرير الإعلام من سلطة الرقيب السياسي، ورفع مستوى النقد تجاه النظام الرسمي. ومما لا شك فيه أن الإعلام هو الأداة الأقوى في الدول الديمقراطية والأكثر تأثيراً في الشعوب، من حيث قدرته على تبني منظومة قيمية سلوكية والتسويق لها وتعميمها لتساعد الأفراد والمجتمعات على التغيير الديمقراطي والانتقال إلى مستوى متقدّم من حيث الحريات، الحقوق، العدالة، المساواة، والتعددية الحزبية.

الشعوب التي لا تعتز بهويتها مهزومة متردّدة، فاقدة الثقة بنفسها، تسيطر عليها مشاعر الدونية، لا يتقبلها الآخر ندّا له، بل تابع صغير

ومن باب الإنصاف، يجب القول إن لحظة إنشاء قطر مشروعها الإعلامي كانت فاصلة في تاريخ هذا البلد ومستقبله، وكل ما تبعه من منجزات قطرية داخلية وخارجية، وعلى صعيد القوى الناعمة، وصولا إلى مونديال قطر، حيث أدركت النخبة نقاط قوة هذا البلد ونقاط ضعفه، وبدأت بالتخطيط والاستثمار في مجالاتٍ كانت خارج تفكير الحكام والنخبة في المنطقة العربية، لتكون رائدة في عدّة منجزات حضارية، جديدها تنظيمها كأس العالم، والذي سمّاه القطريون مونديال العرب. ولهذه التسمية رمزية حضارية لمن يقرأ الرسالة، إذ يضع العرب من خلال قطر بصمتهم الخاصة في حدث عالمي ذي بعد حضاري، تسعى كل دولة إلى ترك بصمة لها في تاريخه. من هنا جاء إصرار قطر على التمسّك بهويتها العربية الإسلامية، من خلال لاءات تعكس اعتزازها بالهوية العربية وثقتها بها مرجعا إنسانيا حضاريا ساهم في حقب تاريخية عدة في بناء الحضارة الإنسانية، ودفعها إلى التغيير نحو الأفضل. ربما وصل أوجه في الأندلس عبر المنتج العلمي والأدبي والمعماري الذي كان عاملا رئيسيا في النقلة الحضارية الغربية، قبل أن تضيع الأندلس صراعات حكامها وملوك طوائفها، بعد أن اصبحوا أسرى المال والجنس والسلطة، وأريد لأحفادهم العرب والمسلمين أن يبقوا رهن ذلك المستوى الغريزي من مستويات السلوك والفكر، ليستكملوا إضاعة ما ضيعه أجدادهم الأندلسيون، تبديدا للثروة وتعطيلا للفكر وانفلاتا للشهوة بكل تصريفاتها ودرجاتها، وصولا إلى الخروج من القدرة على الفعل الحضاري الإنساني، والبقاء في خانة المفعول به حضارياً، فالشعوب التي تخرج من دائرة الفعل الحضاري تصبح شعوب ثرثارة غير فاعلة (انظر إلى "السوشيال العربي") تستسهل اطلاق الأحكام يمنة ويسرة، يأخذ الغالبية فيها دور القاضي والعلامة، يفتون في كل شيء وأي شيء، وبعضهم يتجاوز ذلك ليصبح شرطيًا على باب الجنة والنار، بينما يستخدمون  الثروة لشراء الحضارة لا المساهمة فيها.
غالب الظن أن الشعوب التي لا تعتز بهويتها مهزومة متردّدة، فاقدة الثقة بنفسها، تسيطر عليها مشاعر الدونية، لا يتقبلها الآخر ندّا له، بل تابع صغير، ولا يحترمها عندما تنسلخ عن ثقافتها. ولذلك يُراد لها أن تبقى تستورد ثقافة الآخر وسلوكياته لتذوب هويتها بمرور الزمن واعتياد الاستهلاك في هويات غريبة عنها. صحيح أن الثقافات في حالة تأثير وتأثر مستمرّة، ولكن الأمم تتقدّم فقط بالتأثير الانفعالي الحضاري لثقافات بناءة تحفز غيرها للمنافسة والإبداع، بينما تبقى المجتمعات التي تسيطر عليها ثقافة الاستهلاك خارج دائرة المنافسة الحضارية. وفي كل حقبة تاريخية، تعتقد بعض الأمم أنها متفوّقة حضارياً. وعادةً ما يكون لهذا الشعور شواهد موضوعية مدعومة بالعلم والتكنولوجيا والفنون والاقتصاد .. إلخ. ولكنه يحتاج أيضا (إرضاء للإيغو المنتفخ) إلى الإبقاء على أمةٍ ما في مستوى متخلف واستهلاكي.

شواهد عديدة في مونديالات سابقة استضافتها دول مجرمة ومتهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب

في العودة إلى لاءات قطر، ربما تصبح مفهومة، من خلال السياق أعلاه، هذه الهجمة المستمرّة والمخطط لها منذ إعلان استضافتها المونديال، وإلّا لماذا لم ترتفع تلك الأصوات إزاء استيراد دولهم الطاقة من قطر على سبيل المثال، أم أنّ حقوق العمال والأقليات الجنسية تحضر وتغيب حسب المصالح والأهواء؟ ثم لماذا علينا أن نصفق لفئة لديها ممارسات جنسية خاصة بها! فهل من الذوق العام أن نصفق لإقامة أي علاقة جنسية طبيعية في الشارع، ولماذا يجب إعلان تلك الميول الخاصة وإجبار الآخرين، أفراداً ودولاً، على التصفيق لها، وليس فقط تقبلها!
بالمناسبة، هناك ثماني دول مشاركة في مونديال قطر تمنع قوانينها المثلية الجنسية، وتجرّم من يمارسها، هل يجب طرد هذه الدول من "فيفا"؟ وهل يجب منعها من استضافة مونديال مقبل؟ إذاً، الأمر غير نابع من موقف مبدئي، وهناك شواهد عديدة في مونديالات سابقة استضافتها دول مجرمة ومتهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب. لم تكن هناك هذه الهجمة الإعلامية عليها من هذا التيار المتطرّف الذي ينشط داخل المنظومة الحقوقية الدولية، وتدعمه أحزاب شعبوية وتيارات فكرية نيوليبرالية. وسيكون لهذا التطرّف أثر بالغ السوء على القضايا الإنسانية المحقة، لأنه يستخدمها بشكل فج لأجنداته الضيقة، مستفيداً من لوبيات المال والسياسة والفن في ترهيب الأفراد والدول بشعاراتٍ برّاقة. يصنف كل من لا يتبناها بأنّه معادٍ لحقوق الإنسان، ومتخلف عن ركب الحضارة والعولمة التي يريد بعضهم اختزالها عند مستوى أولي من مستويات الحياة. واعتقادنا أنّ الأفراد الذين يريدون ممارسة ميولهم الجنسية أمام الملأ ما زالوا في سلوكياتهم عند مستوى الغريزة، والذين يدعمون ويسوقون ذلك حقّاً لهم يحتاجون علاجاً نفسياً وقيمياً وسلوكياً طويل الأمد.

جرى في قطر إجبار أصحاب العمل على دفع أجور العمال عن طريق التحويل المصرفي، بما يتيح مراقبة مدى التزامهم بدفعها

في سياق الهجمة نفسها على استضافة بلد عربي كأس العالم، تكثفت البيانات التي تنادي بتحسين أوضاع العمّال من خلال سنّ قوانين وتشريعات تحفظ لهم حقوقهم ولا تنتقص من كراماتهم الإنسانية وتجعلهم في مأمن عن التسريح التعسّفي أو الترحيل والاحتكار. ولنكن منصفين، بقيت بعض دول الخليج فترة طويلة محط نقد من منظمات وهيئات حقوقية محلية ودولية بسبب قوانين العمل المجحفة، وأهمها نظام الكفيل الذي له أثر بالغ السلبية على واقع العمالة. وحسناً فعلت بعض الدول أنّها بدأت بإلغاء هذا النظام أو تخفيفه، والانتقال إلى أنظمة وقوانين أكثر عدالة وحفظاً لحقوق العامل وكرامته. وجاءت استضافة المونديال فرصة انتهزتها قطر لتحسين أوضاع العمّال وسنّ حزمة قوانين في هذا الإطار، إذ جرى السماح بتغيير جهة العمل من دون موافقة صاحب العمل. وتفيد الإحصائيات أنه في عام 2021 جرت الموافقة على تغيير أكثر من 345 ألف طلب لعامل بتغيير موقع عمله من دون موافقة صاحب العمل. وجرى إجبار أصحاب العمل على دفع أجور العمّال عن طريق التحويل المصرفي، بما يتيح مراقبة مدى التزامهم بدفعها. وتعد دولة قطر الأولى خليجياً باعتماد حدّ أدنى للأجور، وشمل هذا الأمر أكثر 250 ألف عامل منذ تطبيقه. وتم كذلك حظر العمل في الأماكن المفتوحة صيفاً بين شهري يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول، وذلك حماية للعمّال من الإجهاد الحراري، وتم إغلاق أكثر من 450 موقع عمل في هذا العام بسبب ضعف إجراءات سلامة العمّال. وأبرزت إحصائية لمنظمة العمل الدولية أنّ نسبة العمّال المصابين بالإجهاد الشمسي انخفضت في عام 2022 بنسبة 77% عن عام 2020. كما أنشأت الحكومة القطرية منصّة رقمية تسمح للعمال بتقديم شكوى للجهات المختصة ضد صاحب العمل.
وفي كلّ الأحوال، لا يمكن القول إنّ واقع العمالة في قطر صحّي مائة بالمائة من كلّ الجوانب، لكنّه يتحسّن باستمرار، وهذا بحسب بيانات صادرة عن منظمة العمل الدولية. ويشكل المونديال فرصة لتحسين واقع العمال وتطوير بيئة العمل قانونياً وخدمياً، وهذه المطالبات الدائمة بتحسين أنظمة العمالة وتشريعاتها صحية، وتصب في مصلحة الاقتصاد والدولة ككل.
في خضم كل هذه الجعجعة، يبرز مونديال العرب أول مونديال تحكم فيه حكمات في تاريخ تنظيم هذه البطولة، وهي خطوة غاية في التميز. كما أنه أول مونديال سيجري بعده التبرّع بمقاعد بعض الملاعب كلياً وجزئياً لدول محتاجة لتطوير بنيتها التحتية الرياضية. ونظام التكافل هذا جزء أصيل من هويتنا وثقافتنا العربية والإسلامية التي أصرّت قطر على إبرازها من خلال الثيمات الخاصة بكأس العالم، إضافة إلى الهندسة المعمارية للملاعب، والتي عكست هوية البلد المضيف وتراثه، وصولاً إلى فتح القطريين والمقيمين مضافاتهم ومجالسهم للمشجّعين والزوار، فتسمع صوتاً واحداً في أرجاء البلد يهتف: ارحبوا…

915BE925-14AA-479E-A7CB-D4B938E61BAE
915BE925-14AA-479E-A7CB-D4B938E61BAE
عمر الشيخ إبراهيم

كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.

عمر الشيخ إبراهيم