خلف الأرقام والشريط العاجل في سورية

خلف الأرقام والشريط العاجل في سورية

16 أكتوبر 2014

آثار قصف طائرات النظام لمنطقة عربين قرب دمشق (14أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

بينما يتدرج الخبر السوري في المراتب الثلاث من نشرات الأخبار، في تنافس مع أحداث طارئة في بلدان مجاورة، انتزعت منه، أخيراً، المركز الأول، والذي حافظ عليه تقريبا في السنوات الثلاث التي مضت.

في ترجمة فورية ذهنية من الرقم والخبر إلى المشهد، والذي قد لا تتجاوز المدة الزمنية المخصصة له الثواني، وفي أحسن الأحوال الدقيقة، تحضر إلى الأخبار مشاهد كاملة لأناس يتنفسون، لديهم، على الأقل، ماض وحاضر من دون مستقبل. يتجرعون التجربة بما هو أكبر من خبر، وأطول من دقيقة، بما هو عمر كامل وحيوات. وبالتأكيد، الأخبار العابرة في يومياتنا باتت أكثر من أن تعد وتحصى، يكتفى هنا بعدد منها.

الخبر: غرق سفينة تحمل مئات اللاجئين السوريين قرب السواحل الإيطالية، وخفر السواحل ينتشلون الجثث. المشهد: لم تكن مريم قادرة على تحمل كل تلك المشاق، لكنها كانت تريد حلاً، يؤمن لها، ولطفليها الاستقرار، فمنذ خرجت من سورية، هرباً على الأقدام، تجر خلفها طفليها، وهي تحاول أن تؤمن لهم سقفاً يحميهم، ولقمةً تطعمهم، وغطاء يقيهم شر البرد، كما أنها لم تجد الأهم، وهو كرامتها التي تهدر، في كل دقيقة، على عتبات الخيام وغضب المجتمعات الحاضنة، على الرغم من أنها حاولت، دائماً، أن تقول للجميع إنها لم تغادر وطنها، برغبة منها من دون جدوى. مريم، وبنصيحةٍ من شخص ما، قررت أن تحمل طفليها، وتتجه إلى مكان قد تجد فيه شيئاً من كرامة، ريثما تتمكن من العودة إلى وطنها الجريح. السفينة تغرق ومريم تحاول إنقاذ طفليها. مريم لا تجيد السباحة. مريم تختنق، وتنزل إلى قعر الماء مع طفليها. مريم تجد راحة من نوع آخر. ينتهي المشهد مع شهقات الغرق لركاب آخرين، قصصهم تشبه قصة مريم. وعلى شاشة الأخبار نشهد انتشال جثث نساء وأطفال، بينهم امرأة اسمها مريم.

الخبر: مقتل عشرات المدنيين في أحياء سكنية، تم قصفها بالبراميل المتفجرة. المشهد: على الرغم من الانقطاع الكامل للكهرباء والقصف المتكرر في أماكن مجاورة، إلا أن ماجد وزوجته حنين استطاعا أن يحولا العتمة وضجيج القصف، في هذه الليلة، إلى بعض المرح، في محاولة لإزالة الذعر اليومي للبنى وأحمد، والذي يداهم لياليهما، بسبب العتمة وأصوات القذائف القادمة من الطائرات، أو من الهاون، أو من كل مكان، حيث يملأ الصراخ والبكاء المنزل، وتسعى حنين إلى طمأنتهما من دون جدوى. قرر ماجد وحنين، في هذه الليلة المرعبة، أن يحتالا على الخوف والظلام، وأن يلعبا مع طفليهما لعبة الاختباء. وكان على ماجد أن يبحث عن الجميع، في كل مرة، بطريقه تهريجية، من أجل إثارة الضحك وإزالة الرعب عن لبنى وأحمد وربما حنين. أغمض عينيه، وبدأ بالعد للمرة الرابعة على التوالي. لحظات صوت صفير حاد، انفجار، غبار، تحول المكان إلى ركام، صمت قاتل.

على شاشة الأخبار، يظهر رجل مدمى ومغبر، اسمه ماجد، منهار، ويصرخ كالمجنون، يحاول أن يخرج بقايا طفله العالقة تحت قطعة إسمنتية كبيرة. ترتسم على وجه ابنه الميت، ابتسامة غريبة، قد تعود إلى أن والده وجده حيث يختبئ. الخبر: منظمات حقوقية تقول إن 50 معتقلاً، على الأقل، يقضون تحت التعذيب يومياً في سجون النظام.

المشهد: بعد أن سمعت أم عدنان بأن هناك عفوا صدر، وهناك احتمال يرافقه، بخروج عدنان من المعتقل، جمعت كل الجارات لتبشرهن بأن عدنان سيخرج قريباً. مر على اعتقاله أكثر من عام، لم تتوقف فيه عن البكاء والأنين، في انتظارٍ لا ينتهي على الشرفة، وأمام عتبة المنزل وفي الشارع، وفي أحاديثها مع الجارات ومع البقال ومع الجميع. حين سمعت خبر العفو، لم تتوقف عن الضحك والبكاء، فعدنان، والذي اعتقل في عمر العشرين منذ عام، هو كل ما لديها، بعد أن توفي أبوه، في حادث سير، وتزوجت سميرة، وسافرت إلى زوجها في أميركا.

تبادلت الجارات معها التهنئة، بانتظار أي أخبار، وقد نصحتها إحداهن بأن يتابع الموضوع محام للتسريع بخروجه. لحظات، يرن جرس الهاتف، تجري أم عدنان لترد. أم عدنان تتلقى اتصالاً من الأمن العسكري، يطلبون منها الحضور لاستلام بطاقة عدنان الشخصية وأغراضه، إن أرادت، فعدنان توفي. المشهد صور مسربة لجثث معتقلين مثل بهم، وقد غطيت بعض الصور، لشناعة المنظر.

في كل يوم يزور الخبر السوري حياتكم، وربما بات الملل الشعور العام لدى غير السوريين من الحدث السوري الذي لا ينتهي، والأسوأ أن المجتمع الدولي وبعض صناع القرار في العالم لم تعد تعنيهم نهاية المعاناة السورية، بقدر ما يعنيهم وضع المسألة السورية تحت غطاءٍ ما، والتعتيم على ألم السوريين، ليستمر الصراع في سورية، وعلى سورية إلى ما لا نهاية، في ظل فشل ذريع لكل الأطراف السورية في الدفع نحو حل ينهي الصراع، ويخفف المعاناة اليومية عن الشعب المتعب الذي بات الألم خبزه اليومي، وصارت معاناته روتيناً، يبدأ من البحث عن لقمة العيش، ولا ينتهي بالبحث عن مكان آمن، أو إيجاد سقف، أو غطاء، والأهم البقاء على قيد الحياة.

في سورية، هناك ألم يمتد إلى ما هو أكبر من خبر، وأطول من تقرير إخباري على محطات التلفزة.

55524670-2284-47D5-9A37-B2D0D387789F
ريما فليحان

كاتبة وناشطة حقوقية وسيناريست سورية