حكواتي: فان كوخ.. في حيّنا

حكواتي: فان كوخ.. في حيّنا

22 ديسمبر 2014
فان كوخ.. في حيّنا (Getty)
+ الخط -

تلقّى الشاب الهولندي ذو الشعر الأحمر والوجه الأصهب، فنسنت فان كوخ، تدريباً على العمل في مجال بيع الأعمال الفنية. لا بدَّ أن ميله إلى الرسم، وشغفه به، دفعاه إلى هذه الطريق التي صارت، أيضاً، نوعاً من تقليد عائلي، إذ إنَّ شقيقه ثيو كان بائع لوحات ووسيطاً فنياً ناجحاً، وإن لم ينجح في طرح أعمال أخيه على ذائقة زمانه الفنية.

هذا ما جاء بفنسنت فان كوخ إلى لندن في العشرين من عمره ليعمل في صالة لبيع الأعمال الفنية مملوكة لهولندي في منطقة كوفنت غاردن في وسط العاصمة البريطانية. كان ذلك في عام 1873. لكنَّ الرسام العظيم، الذي لم يكن قد بدأ الرسم بعد، لم يُطْل المقام في الغاليري الواقع في وسط لندن، فذهب للعمل في باريس عند صاحب الغاليري ذاته. ومثل أعمال وأحوال ستأتي في سيرة حياته القصيرة، المتوترة، المحفوفة بالجنون، لن يبقى في هذه المهنة، وسيغادر باريس عائداً إلى لندن التي يبدو أنه أحبَّ الحياة فيها خصوصا لجهة ارتفاع رواتبها قياساً بفرنسا وهولندا، فقد فاق راتبه الشهري، في غاليري كوفنت غاردن، ما كان يحصل عليه والده في هولندا.

في العشرين من عمره، غريب في بلاد ليس له فيها عائلة أو أصدقاء، ذو سحنة صهباء وشعر رأس أحمر، مُني فنسنت فان كوخ بأول صدمة عاطفية مدوَّنة في حياته. لقد أحبَّ ابنة صاحبة البيت، الذي كان يشغل فيه غرفة، في منطقة بريكستون على الضفة الجنوبية من نهر التيمز، لكنَّ الفتاة التي فاتحها بعاطفته صدَّته. قد يكون هذا ما دفعه، شيئاً فشيئاً، الى عزاء آخر، فراح يتغلغل أكثر في العمل الديني، مدرساً وواعظاً في نوع من الشبوب الروحي المتَّقد.

كان يريد توجيه عاطفته، البشرية، المخذولة وجهة أخرى: حبّ الله، وخدمة الفقراء. هذا ما فعله عندما انتقل من جنوب لندن إلى غربها حيث عمل مدرساً في مدرسة داخلية يشرف عليها رجل دين. في هذه الفترة كان عمله تطوعياً، فقط مقابل الأكل والمنام. ثم حظي بوظيفة في مدرسة أخرى في منطقة إيزلوورث.. حيث سينال خمسة عشر جنيهاً استرلينياً راتباً سنوياً، إضافة إلى الأكل والمنام!

أبدت رسائل فان كوخ إلى أخيه ثيو، التي شكلت كتاب رسائل كبيراً في ما بعد، ارتياحاً نفسياً في عمله مع القس توماس سليد جونز. وتفيد زوجة أخيه ثيو بأن فنسنت وقع في غرام التراتيل الكنسية الانكليزية وجو القرية الصغيرة التي انتقل إليها. كانت هذه "القرية الصغيرة" التي عمل فيها فان كوخ هي حي إيزلوورث حيث أقيم..الآن، وهو جزء لا يتجزأ من مدينة لندن.. وليس تلك القرية، ذات الإرث السكسوني والروماني، التي أقام فيها فان كوخ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

في بريطاينا، مثل غيرها من البلدان الأوروبية، تجد على واجهات بعض البيوت لوحات معدنية دائرية زرقاء تقول: فلان الفلاني أقام هنا. وفلان الفلاني هذا شخصية شهيرة بالطبع. رجل سياسة، أدب، مال، مجتمع. وفي شارع تويكنهام الذي غالباً ما أمر به في طريقي إلى حي تويكنهام، أو أبعد قليلاً، ريشموند، أرى، على واجهة أحد المباني، المطلة على الشارع الرئيسي هذه اللوحة الزرقاء التي تقول: فنسنت فان كوخ الفنان الشهير عاش هنا عام 1876. لم أكن أعرف، عندما رأيت هذه اللوحة، أول مرة، أن الفنان المفتون بعباد الشمس أقام في لندن..

ففي شظايا سيرته التي وقعت عليها، هنا وهناك، كلام مسهب عن إقامته في فرنسا، وبالطبع عن نشأته الفقيرة في قرية هولندية، وعن قطع إذنه، وصداقته المتوترة بغوغان، وعن انتحاره، مجنوناً، في قرية شمالي فرنسا، ولكن ليس عن إقامة في لندن في سني تكوينه الأولى التي ستؤثر، لاحقاً، على مسار حياته. لكن لِمَ الغرابة؟ صحيح أن لندن لم تكن مدينة تجتذب الفنانين مثل باريس، بيد أنها كانت عاصمة لإمبراطورية عظمى، وفيها عمل وتجارة وسياسة محورية في عالم تلك الأيام، فضلاً عما بين هولندا وبريطانيا من روابط ليس أقلها انتماء غالبية السكان إلى البروتستانتية.

من أجل العمل، وتحسين وضعه المالي، جاء فان كوخ وليس من أجل الفن. تتضمن رسائله إلى أخيه ثيو من لندن بعض التخطيطات لمعالم من الأمكنة التي يقيم فيها ولكن ليست هناك لوحات من فترته اللندنية، فهذه لن تظهر إلا بعد عودته إلى بلاده، مباشرة من لندن، وبداية اعتلال صحته ومزاجه.

كانت فترة لندن، كما يبدو من رسائله، للقراءة والمشي. ويبدو أن طبيعة لندن هي التي أثارت اهتمامه أكثر من أي شيء آخر... أما اهتمامه بالرسم فقد "مات" فيها، كما يقول في إحدى رسائله إلى ثيو.

المساهمون