حروب المقاومة الفلسطينية

حروب المقاومة الفلسطينية

25 اغسطس 2014

عناصر من المقاومة في شوارع غزة (22 أغسطس/2011/Getty)

+ الخط -


فيما يتواصل العدوان الصهيوني على غزة، تكشف المقاومة الفلسطينية عن قدراتٍ مذهلة في التصدي له، ليس من الناحية العسكرية فحسب، وإنما سياسياً أيضاً، وربما خلافاً لحروب التحرير التي خاضتها شعوب كثيرة، فإن الصراع الدائر حالياً في فلسطين المحتلة يكشف عن حالة متميزة، من جهة أن قوى المقاومة تخوض معارك متعددة على جبهات مختلفة، وضد أكثر من عدو، مع غياب واضح للدعم المباشر من قوى كبرى، مثلما تمتعت الثورة الفيتنامية بالدعمين، السوفييتي والصيني، في حينه، أو ما توفر للمقاومة الجزائرية من احتضان دول الجوار وإمداد من دول إقليمية مؤثرة.

تخوض غزة، اليوم، بوصفها طليعة حرب التحرير الفلسطينية، معركتها على جبهات متعددة، تصب جميعها في خانة واحدة، هي إخماد صوت الرفض الفلسطيني، ومنح الكيان الصهيوني شرعية الهيمنة والغلبة، وتتعدد الوسائل والآليات المتبعة من أجل تحقيق أهداف هذه الحرب العدوانية.

فمن الناحية العسكرية، تواصل المقاومة حربها ضد العدو الصهيوني الذي يسعى، منذ انسحابه من غزة، إلى إخضاع الشعب الفلسطيني، وجعله يفقد روح الصمود والمواجهة، خصوصاً في ظل ما حققته المقاومة من انتصارات متتالية، سواء في مواجهات سابقة (عدوانا 2008
/2009 و2012)، أو نجاحها في صفقة تبادل الأسرى، وصولاً إلى ما حققته من إعادة بناء ترسانتها العسكرية، وما اكتسبته من ثقة في النفس، في أثناء مقارعة العدو، وهو ما جعل خيار المقاومة يبدو أكثر جاذبيةً لشرائح كثيرة من الشعب الفلسطيني، ما أدى إلى إفشال جهود كثيرة، ساعية إلى إفقاد القضية الفلسطينية ألقها، وتحويلها إلى مشكلة إنسانية، تتعلق ببعض اللاجئين، وليس قضية احتلال وأرض مغتصبة ينبغي أن تعود الى أصحابها. فقدت الطبقة السياسية الصهيونية صوابها، وأصبحت تتصرف من دون هدف واضح من العدوان على غزة، وتبحث عن تحقيق انتصار وهمي، هنا وهناك، (محاولة تصفية القادة، تدمير بنية تحتية، قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين) من أجل إقناع ذئاب المستوطنين الذين فقدوا الشعور بالأمان، في كل مناطق فلسطين المحتلة، بداية من مستوطنات غلاف غزة، ووصولاً إلى القدس وتل أبيب، فالهزائم الأخيرة التي لحقته على يد المقاومة في غزة ولَدت إحساساً عميقاً لدى الصهاينة بما يسمى "عقم الانتصار"، لأن الحروب المستمرة التي كان من المفروض، في كل واحدة منها، أن تنهي كل الحروب، لم تأت لا بالسلام ولا بالنصر. وقد تبين الصهاينة أنهم وصلوا إلى الحد الأقصى في استخدام القوة والعنف، من دون جدوى، ولم يتمكنوا من انتزاع الاعتراف من الشعب الفلسطيني، وكسر إرادة الرفض لديه، وإنما ظلوا دائماً كياناً منبوذاً وغريباً عن الأرض العربية.

ومن ناحية أخرى، للمعركة العسكرية امتداداتها على المستوى الفلسطيني، فقد كشفت عن عبثية خيار المفاوضات الذي سارت عليه منظمة التحرير منذ أوسلو، والمشكلة أن هذه المفاوضات تحولت إلى خيارات إستراتيجية للنظام الرسمي العربي، ويسعى فريق التفاوض إلى إلزام مجمل الشعب الفلسطيني بها، ما قد يؤدي إلى التفريط في الثوابت الوطنية الفلسطينية، في صورة التوقيع على اتفاقياتٍ، تتعلق بالأمن والحدود واللاجئين، من دون العودة إلى مرجعية عليا، ذات تمثيلية لغالبية الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات. وهذا ما يدعو كل قوى المقاومة، وكل الأطراف الحريصة على مصالح الشعب الفلسطيني، أن ترتقي إلى مستوى التحدي التاريخي، المطروح عليها الآن، وهو الأخذ على أيدي هذا الفريق المفاوض، ومنعه من التلاعب بنضالات الشعب الفلسطيني، وحفظ الدماء التي بذلها طيلة عقود، فاللحظة الحالية قد تكون حاسمة في ضرب المؤامرة الحاصلة في أفق تصفية القضية الفلسطينية، بتواطؤ دولي وعربي رسمي، قد يفضي إلى نكبة جديدة أشد وأنكى من التي سبقت، لأن تضييع الحقوق والتنازل عن الثوابت، بإقرار طرف فلسطيني، أخطر من اغتصاب الأرض ذاتها، وربما هذا ما يفسر التصريحات الصهيونية عن دعم عربي مفترض له في مواجهته الحالية مع المقاومة، وهو أمر له شواهد تؤيده، خصوصاً في ظل المواقف المترددة للأنظمة العربية، وانخراط بعضها في لعبة الضغط على المقاومة، ومحاولة تقزيم إنجازاتها، وهو أمر يحيلنا إلى الجبهة الثالثة في حروب المقاومة، وقد تجلى في أثناء المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال، برعاية النظام الانقلابي في مصر الذي يحاول تقديم خدمة للكيان الصهيوني، وراعيه الأميركي، بالضغط على القطاع والتضييق على المقاومة، سواء بتقديم مبادرة هي أقرب إلى صك الاستسلام، أو من حيث رفض تخفيف الحصار وفتح معبر رفح ولو مؤقتاً.

ويمكن فهم المنطق السياسي لنظام الانقلاب في مصر في عاملين: أولهما، الظهور بمظهر الحليف المفيد للقوى الاستعمارية في المنطقة، وبالتالي التمتع بدعم مالي وسياسي، مع تواصل الحراك الشعبي في الشارع المصري. وثانياً، شكل وجود حركة المقاومة في غزة عاملا ضاغطا على النظام، سواء من حيث ما يخلقه صمودها من تعاطف شعبي بين الجماهير المصرية، أو ما يسببه من حرج لنظام عسكري، يبدو فيه الجيش مستأسداً على شعبه متخاذلا أمام العدو، من دون أن نتغافل، في هذا الإطار، عن الدور الإعلامي المشبوه الذي تقوم به أجهزة الإعلام لدول عربية كبرى، تدسّ السم في الدسم، وتبذل جهدها لتصوير المقاومة على أنها أقرب إلى الإرهاب، أو بوصفها من أشكال العنف غير الشرعي، وهي دعايات إعلامية، تجد جذورها في تصريحاتٍ لمسؤولين في أنظمة عربية تتعامل مع القضية الفلسطينية، وكأنها عبء ينبغي التخلص من ثقله بأي شكل، والتخلص من المقاومة سيكون ركناً أساسياً في أي محاولة لإعادة المنطقة العربية إلى بيت الطاعة الغربي، في ظل حالة الغليان التي تشهدها المنطقة، منذ بداية الربيع العربي.

لقد أفلحت المقاومة الفلسطينية في خوض حربها، وعلى الجبهات المتعددة، على الرغم من تعدد الخصوم وقلة النصير بين الأنظمة الرسمية، وسيكون لانتصارها، هذه المرة، وقعه المزلزل في المنطقة، لأنها ستمنح الشعوب العربية التائقة للحرية أملاً ونفساً جديدين، من أجل مزيد من المقارعة لأنظمة الاستبداد، تأسّياً بمقاومة غزة التي أفلحت في صد العدوان، على الرغم من شدته وبشاعته، فللحرية أثمان لا بد من دفعها لكل من أراد العيش بحرية وكرامة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.