بعد عشرين ساعة من الجدل والتوتر والمناورات، انقشع الضباب عن المعركة التي شهدها يوم الأربعاء الماضي البرلمان التونسي، بين رئيسه، رئيس حركة "النهضة"، راشد الغنوشي وأنصاره من جهة، وخصومه بجميع اتجاهاتهم، من جهة أخرى. معركة سياسية طاحنة قادتها بعض الأحزاب والكتل من أجل "محاسبة" رئيس "النهضة"، ومنهم من حاول أن يدفع بالجلسة العامة التي استمرت إلى الثالثة فجراً نحو إطاحة الغنوشي عبر إقالته واستبداله برئيس آخر، لكنهم اختلفوا في هذه المسألة. يبقى السؤال: كيف صمد الغنوشي أمام العاصفة؟ ومَن الخاسر والرابح في هذه الجولة من صراع سيستمر لفترة طويلة؟
منذ اللحظة الأولى بعد الثورة، وجدت "النهضة" نفسها أمام خصوم كثر. أصبح ذلك عنصراً ثابتاً في المشهد التونسي. حتى بعض الذين تحالفوا معها اضطرارياً كانوا لا يخفون عداءهم لها، ويعلنون شكوكهم في نياتها. وما حصل أخيراً في البرلمان سبق ما يشبهه في البرلمان السابق، وخلال دورة المجلس الوطني التأسيسي. لكن في كل مواجهة سياسية تصمد "النهضة" أمام محاولات إبعادها أو إسقاطها بالضربة القاضية. يعود ذلك إلى أسباب متعددة ومتداخلة، من أهمها تشتّت معارضيها واختلاف أجنداتهم وتضارب مصالحهم، وهو ما تكرر هذه المرة وتجلّى بوضوح.
رئيسة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسي شخصية "محاربة"، لكنها عجزت حتى الآن عن تشكيل جبهة موحدة وصلبة تساندها وتقف حولها. فالجميع تقريباً لا يثقون بها. صحيح أنها لأول مرة حققت كحزب بعض النقاط لمصلحتها، وهو ما مكّنها من أن تجمع 94 صوتاً نيابياً لمصلحة لائحتها لرفض التدخل الأجنبي في ليبيا (سقطت لعدم حصولها على أغلبية 109 أصوات)، لأنها قبلت بأن تتراجع لأول مرة عن عنادها الذي أصرّت عليه منذ دخولها البرلمان. ويعتبر هذا العدد من البرلمانيين غير قليل في برلمان مشتت، خصوصاً أن الذين أيّدوا حركة "النهضة" لم يتجاوزوا دائرة كتلة "ائتلاف الكرامة" وعدد قليل من النواب المستقلين. مع ذلك، بقيت رئيسة "الدستوري الحر" مصدر شك وخوف لدى كثير من السياسيين، بمن فيهم الذين تقاطعوا معها في مسألة الموقف من التدخّلات الخارجية في ليبيا. فهي متمسكة بخطابها العنيف الذي يحمل في طياته الرغبة في الهيمنة والحرص الواضح على التخلص من الثورة والديمقراطية والإسلاميين بمختلف ألوانهم ولافتاتهم.
كشفت جلسة البرلمان الأربعاء عن استقطاب حاد استفادت منه كثيراً عبير موسي، لكنها أدركت في المقابل أن حركة "النهضة" قادرة على مواجهتها سياسياً داخل البرلمان وخارجه. هذا يعني أن "النهضة" كلما ضعفت وتراجع حجمها ووزنها سياسياً ومؤسساتياً، فإن المستفيد من ذلك سيكون قطعاً موسي وحزبها، وذلك في ضوء تفكك بقية الأحزاب التي تفتقر إلى القيادة القوية والقدرة على المقاومة. وما حدث في البرلمان يدل بوضوح على أنه في المواجهات ذات الطابع الأيديولوجي لا يصمد إلا من له أرضية وتنظيم قوي وولاء لقيادة موحدة. أما من لا يملك ذلك، فسيجرفه الصراع ويدفعه غالباً إلى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، أو البقاء ينظر إلى الميدان من بعيد.
اقــرأ أيضاً
من جهة أخرى، خرج الائتلاف الحاكم من هذه المعركة أضعف مما كان عليه. فكل حزب من أحزابه كان له موقف مختلف عن البقية. فـ"التيار الديمقراطي" فضّل عدم التصويت، على الرغم من اعتقاد قيادته أن عبير موسي تحاول مغالطة الرأي العام، ولم تكن تسعى إلى حل توافقي، بينما انحازت حركة "الشعب" إلى مبادرة الحزب "الدستوري الحر"، على الرغم من اختلافاتها السياسية العميقة معه. فالأخير قدّم المعركة ضد تركيا وقطر على مبدأ التضامن الحكومي، وجعل منها ذات أولوية على التحالف الذي يربطه بـ"التيار الديمقراطي". هذا يعني أن الحكومة ليس لديها موقف موحد مما جرى في البرلمان، وأن الوثيقة التي اقترحها رئيسها إلياس الفخفاخ لحماية حكومته من التفكك والانفجار لم يكن لها جدوى، ولم تصمد أمام الحسابات الأيديولوجية للأحزاب.
هذا التباين ستكون له تداعيات على وحدة الحكومة، وقد تؤثر باستمراريتها في المستقبل، على الرغم من أن الأمين العام لحركة "الشعب" زهير المغزاوي، اعتبر أن الاختلاف لا يفسد "للود" قضية. اتسعت المسافة كثيراً بين "النهضة" و"الشعب"، وقد يؤدي ذلك إلى صراع مفتوح بين الطرفين، وتجلّى ذلك بوضوح في تبادل التهم الثقيلة بين أنصارهما وكوادرهما القيادية، ولا يُستبعد أن يؤدي ذلك إلى تعديلات جوهرية في التقاطعات السياسية والحزبية.
أما "قلب تونس" الذي راهنت عليه كثيراً حركة "النهضة"، فقد أربكته جلسة البرلمان. وعلى الرغم من محاولته تهدئة الأجواء، وحرصه على تخفيف حدة البيان الذي صاغه "الدستوري الحر"، وتمسكه بتجنّب ذكر الدول مثل تركيا وقطر، إلا أن الإشارة إلى موقف البرلمان العربي الواردة في ديباجة النص، أوقع الحزب في إشكال مع "النهضة" التي تعاملت معه كصديق في البرلمان، ومارست الضغوط من أجل إشراكه في حكومة الفخفاخ. لهذا، فإن العلاقة بينهما أصبحت مهتزة، على الرغم من أن مبررات "قلب تونس" عديدة، لعل من أهمها حرصه على عدم تمكين عبير موسي من الانفراد بالمعارضة داخل البرلمان، وعدم السماح لها بالسيطرة على "القاعدة الانتخابية" التي يتنازع عليها الحزبان.
نجاح حركة "النهضة" في إسقاط هذه اللائحة يفرض عليها الاستعداد لمعارك سياسية مقبلة. إذ هناك من يسعى إلى استهداف الغنوشي مرة أخرى، لإجباره على التقيّد بضوابط واضحة، سواء في مواقفه الخارجية، أو في كيفية إدارته للبرلمان. لكن المؤكد أن تغيّر موازين القوى ميدانياً داخل ليبيا من شأنه أن يقلل من حدة الاشتباك بين الفرقاء السياسيين داخل تونس. فالتحوّل العسكري الكبير جعل الأطراف الدولية تشرع في مراجعة حساباتها، وقد تتخلى في لحظة ما عن اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، وربما بحثت عن بديل له يكون مستعداً لتسوية سياسية تحافظ على وحدة ليبيا وتبعدها عن مواصلة الحرب الأهلية.
رئيسة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسي شخصية "محاربة"، لكنها عجزت حتى الآن عن تشكيل جبهة موحدة وصلبة تساندها وتقف حولها. فالجميع تقريباً لا يثقون بها. صحيح أنها لأول مرة حققت كحزب بعض النقاط لمصلحتها، وهو ما مكّنها من أن تجمع 94 صوتاً نيابياً لمصلحة لائحتها لرفض التدخل الأجنبي في ليبيا (سقطت لعدم حصولها على أغلبية 109 أصوات)، لأنها قبلت بأن تتراجع لأول مرة عن عنادها الذي أصرّت عليه منذ دخولها البرلمان. ويعتبر هذا العدد من البرلمانيين غير قليل في برلمان مشتت، خصوصاً أن الذين أيّدوا حركة "النهضة" لم يتجاوزوا دائرة كتلة "ائتلاف الكرامة" وعدد قليل من النواب المستقلين. مع ذلك، بقيت رئيسة "الدستوري الحر" مصدر شك وخوف لدى كثير من السياسيين، بمن فيهم الذين تقاطعوا معها في مسألة الموقف من التدخّلات الخارجية في ليبيا. فهي متمسكة بخطابها العنيف الذي يحمل في طياته الرغبة في الهيمنة والحرص الواضح على التخلص من الثورة والديمقراطية والإسلاميين بمختلف ألوانهم ولافتاتهم.
كشفت جلسة البرلمان الأربعاء عن استقطاب حاد استفادت منه كثيراً عبير موسي، لكنها أدركت في المقابل أن حركة "النهضة" قادرة على مواجهتها سياسياً داخل البرلمان وخارجه. هذا يعني أن "النهضة" كلما ضعفت وتراجع حجمها ووزنها سياسياً ومؤسساتياً، فإن المستفيد من ذلك سيكون قطعاً موسي وحزبها، وذلك في ضوء تفكك بقية الأحزاب التي تفتقر إلى القيادة القوية والقدرة على المقاومة. وما حدث في البرلمان يدل بوضوح على أنه في المواجهات ذات الطابع الأيديولوجي لا يصمد إلا من له أرضية وتنظيم قوي وولاء لقيادة موحدة. أما من لا يملك ذلك، فسيجرفه الصراع ويدفعه غالباً إلى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، أو البقاء ينظر إلى الميدان من بعيد.
من جهة أخرى، خرج الائتلاف الحاكم من هذه المعركة أضعف مما كان عليه. فكل حزب من أحزابه كان له موقف مختلف عن البقية. فـ"التيار الديمقراطي" فضّل عدم التصويت، على الرغم من اعتقاد قيادته أن عبير موسي تحاول مغالطة الرأي العام، ولم تكن تسعى إلى حل توافقي، بينما انحازت حركة "الشعب" إلى مبادرة الحزب "الدستوري الحر"، على الرغم من اختلافاتها السياسية العميقة معه. فالأخير قدّم المعركة ضد تركيا وقطر على مبدأ التضامن الحكومي، وجعل منها ذات أولوية على التحالف الذي يربطه بـ"التيار الديمقراطي". هذا يعني أن الحكومة ليس لديها موقف موحد مما جرى في البرلمان، وأن الوثيقة التي اقترحها رئيسها إلياس الفخفاخ لحماية حكومته من التفكك والانفجار لم يكن لها جدوى، ولم تصمد أمام الحسابات الأيديولوجية للأحزاب.
أما "قلب تونس" الذي راهنت عليه كثيراً حركة "النهضة"، فقد أربكته جلسة البرلمان. وعلى الرغم من محاولته تهدئة الأجواء، وحرصه على تخفيف حدة البيان الذي صاغه "الدستوري الحر"، وتمسكه بتجنّب ذكر الدول مثل تركيا وقطر، إلا أن الإشارة إلى موقف البرلمان العربي الواردة في ديباجة النص، أوقع الحزب في إشكال مع "النهضة" التي تعاملت معه كصديق في البرلمان، ومارست الضغوط من أجل إشراكه في حكومة الفخفاخ. لهذا، فإن العلاقة بينهما أصبحت مهتزة، على الرغم من أن مبررات "قلب تونس" عديدة، لعل من أهمها حرصه على عدم تمكين عبير موسي من الانفراد بالمعارضة داخل البرلمان، وعدم السماح لها بالسيطرة على "القاعدة الانتخابية" التي يتنازع عليها الحزبان.
نجاح حركة "النهضة" في إسقاط هذه اللائحة يفرض عليها الاستعداد لمعارك سياسية مقبلة. إذ هناك من يسعى إلى استهداف الغنوشي مرة أخرى، لإجباره على التقيّد بضوابط واضحة، سواء في مواقفه الخارجية، أو في كيفية إدارته للبرلمان. لكن المؤكد أن تغيّر موازين القوى ميدانياً داخل ليبيا من شأنه أن يقلل من حدة الاشتباك بين الفرقاء السياسيين داخل تونس. فالتحوّل العسكري الكبير جعل الأطراف الدولية تشرع في مراجعة حساباتها، وقد تتخلى في لحظة ما عن اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، وربما بحثت عن بديل له يكون مستعداً لتسوية سياسية تحافظ على وحدة ليبيا وتبعدها عن مواصلة الحرب الأهلية.