تونس: لعنة خزائن الأرض

تونس: لعنة خزائن الأرض

08 يونيو 2015
+ الخط -
تعيش مُختلف مُدن الحوض المنجمي في مُحافظة قفصة، في الجنوب الغربي للجمهورية التونسية، على وقْع اعتصامات وإضرابات وإضرابات جوع شلّت إنتاج مادة الفوسفات، كما أوقفت العمل بالمُركّبات الكيميائية المُرتبطة به، وتمّ خلال هذه التحرّكات رفع عدة شعارات، أهمّها التشغيل الذي يُطالب به الجميع في تونس اليوم: من أفنى زهرة شبابه بين مُدرّجات الجامعة، ومن يعجز عن قراءة لافتة هو رافعها.

يُعتبر الفوسفات الثّروة الباطنية الأولى في تونس، وهو أحد أعمدة الاقتصاد، بما يدُرُّه على البلاد من "عملة صعبة"، لم تدّخِر حُكومات ما بعد الاستقلال جهداً في جمعها بشتّى الطّرق: استثمار أجنبي وتصدير للمنتوجات المحلية واتفاقيات شراكة مع الرجل الأشقر وتهريب للبضائع الضارّ منها والنافع.

دأبت شركة فوسفات قفصة، إحدى أكبر الشركات في تونس، على الإعلان عن مناظرات سنوية لانتداب عملة وموظفين، كما عملت على توزيع هذه الوظائف الشاغرة على مختلف مُدن الحوض المنجمي، غير أن الإعلان عن نتائج هذه المناظرات كان دوماً "إعلان حرب" بالنسبة إلى الذين لم يُحالفهم الحظ في النّجاح: حرب سلاحها الاعتصام وتعطيل حركة عَجَلة الإنتاج ولافتات تحمل شعارات تُـذكِّر بمطالب الثورة أو بما تبقى منها.

اكتشف المُستعمر الفرنسي مُدَّخرات الفوسفات في تونس، منذ أكثر من قرن، ولتسهيل عملية نقل الإنتاج المنجمي، حرص على مدّ شبكة من الطرقات والسكك الحديدية، تربط مدن الجنوب الغربي بالمدن الساحلية، لإنتاج مواد كيميائية، يتم نقلها إلى شمال المتوسط، أما المياه الملوثة التي تفرزها هذه المصانع فمآلها بحر هجرته الأسماك منذ عُقُود، وأصْبحت الزَّوارق والسُّفن مصدر رزق، لا للصيادين، بل لِـمُنظّمي رحلات الهجرة السِريّة الذين ينقلون الحالمين بالعيش في المدن الفاضلة، جنوب القارة الأوروبية.

خرج المُستعمر منذ أكثر من ستة عقود، ولكن "دار مدن الحوض المنجمي" ظلّت على حالها، حيث لم تشهد تطورا يُذكر، عدا الزيادة في عدد السكان والمباني، أما البنية التحتية، وخصوصاً منها السكك الحديدية، فإنها ما تزال كما هي.

مدينة قفصة في ذهن التونسيين، وغيرهم، هي مدينة الفوسفات، هذا ما يقوله الجميع: السياسي المحنّك و"النّـيوسياسي"، المُثقف العُضوي المُدرك دوره والمُثقف الجالس على ربوة خارج البلاد، الحقوقي الذي بحّ صوته، وأفنى شبابه دِفاعا عن كل طالب حق، مهما كان انتماؤه السياسي، أو الفكري والحُقوقي الذي يرفع شعار "الأقربون أولى بالمعروف". هذا هو نصيب الفوسفات من الاهتمام الإعلامي المحلي والدولي، أّما سكان محافظة قفصة، فإن نصيبهم من هذه الثروة بطالة وحانات أسنان مصفرّة وأمراض وغابات نخيل لا تصلح إلا للزينة.

يمثل اكتشاف ثروة باطنية في مشارق الأرض ومغاربها نعمة للمدن والقرى، لما يعنيه ذلك من نهضة عمرانية وبنى تحتية وحركة اقتصادية وفرص عمل، أما في الجنوب الغربي لتونس، فقد تحول الفوسفات إلى ما يشبه اللعنة في بلد "رأس المال البشري" فيه آخر اهتمامات سكان القصور الثلاثة : الجمهوري والحكومي والنيابي.

"ناري على فسفاط المينا، تْهزّ تْرحّل في الماشينا " (واحسرتاه على فوسفات المناجم الذي نقلته الآلات) مقطع لأغنية لمجموعة أولاد المناجم التي تعتبر من أهمّ رموز الفن البديل، وتلخص معاناة أهالي مدينة قفصة الذين نقول لهم: قد يفنى الكنز المدفون أما "أولاد المناجم"  فصامدون وباقون.

avata
avata
يوسف بوقرة (تونس)
يوسف بوقرة (تونس)