تونس بلد الحرية

تونس بلد الحرية

28 نوفمبر 2018
من احتجاجات تونس ضد زيارة بن سلمان(الشاذلي بن براهيم/Getty)
+ الخط -



لم تخطئ صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية حين اعتبرت أن "ما حدث في تونس على هامش زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لا يحدث في أي بلد عربي آخر"، بل يأتي حديثها في سياق يؤكد أن تونس تتحوّل فعلاً إلى أرض للحريات، يعبّر فيها المواطنون والصحافيون عن آرائهم ومواقفهم من دون خوف من أن يكون ذلك سبباً لملاحقتهم. ومنذ أسابيع أشار صحافي في قناة "الجزيرة" إلى أن "تلفزيوناً تونسياً خاصاً بثّ لقطة تمثيلية هزلية شديدة الانتقاد للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ونجله حافظ، ومع ذلك فقد عاد الممثلون والعاملون في المحطة إلى بيوتهم وناموا ليلتهم بهدوء من دون أي تبعات"، موجّهاً شكره للرئيس.

ورغم آلامها وصعوباتها الاقتصادية والاجتماعية، ورغم حجم التنافس السياسي الذي فاق كل التقديرات والخلافات الحزبية التي تتحوّل إلى تصفية حسابات وحرب ملفات، ورغم التهديدات الإرهابية، وتصاعد منسوب الاحتقان الاجتماعي وخلافات الحكومة مع النقابات، وخلافات الرئاسة والحكومة، وبداية العدّ العكسي لانتخابات 2019 بكل ما تحمله من صراع على الحكم وطموحات جارفة لشخصيات وأحزاب وتيارات فكرية، رغم كل ذلك، لم يتراجع منسوب الحرية وظلّ الهامش واسعاً ومتاحاً أمام التونسيين للتعبير عن مواقفهم وأفكارهم من كل القضايا، إلى درجة أن هناك انحرافات أحياناً ومبالغات تتجاوز أخلاقيات التدوين أو الكتابة الصحافية، رغم أن ذلك يبقى معياراً نسبياً يختلف من طرف إلى آخر.

خرج التونسيون للتظاهر ضد زيارة بن سلمان، ليلاً ونهاراً، وحمى الأمن التونسي كل التظاهرات والاحتجاجات، وعاد التونسيون بعد ذلك إلى بيوتهم من دون تسجيل أي حادث يذكر. وقبلها بأيام شهدت البلاد إضراب مئات آلاف الموظفين، وانتظمت مسيرات احتجاجية في قلب العاصمة، شارك فيها الآلاف من الغاضبين على الحكومة، وحمى الأمن التونسي أيضاً تلك الإضرابات ولم يسجل فيها طيلة اليوم أي شيء سلبي، وخرج رئيس الحكومة يوسف الشاهد في البرلمان محيياً اتحاد الشغل، رغم أن الإضراب موجّه ضد حكومته.

تشير كل هذه المحطات إلى أن التونسيين، مسؤولين ومواطنين، بدأوا يتدرّبون فعلياً على الاختلاف ويؤسسون أُطراً لحمايته وينظمون مجالات لتطويره ويضعون حدوداً لعدم انحرافه أو تسليط ضغوط عليه، ويُحسب لمنظمات المجتمع المدني حرصها الشديد على اليقظة والوقوف ضد كل محاولة لتكميم الأفواه، رغم خلافاتها الفكرية أحياناً. ولا يعني هذا الرأي أن تونس أصبحت جنة لحرية التعبير والتفكير، فلا يزال أمامها الكثير، ويُخشى من أن يتحوّل التنافس السياسي إلى وسيلة ضغط على أصحاب الأفكار. ولكنها خطوات تقطعها تونس وتراكمات تحدث ببطء وبثبات، لتؤكّد أنها الوحيدة التي نجت ونجحت إلى حدّ الآن في استثمار ثورتها.