تداعيات هدنة مخاتلة في ليبيا

تداعيات هدنة مخاتلة في ليبيا

29 فبراير 2020
+ الخط -
صرّحت نائبة المبعوث الأممي إلى ليبيا، ستيفاني ويليامز، في إفادة قدمتها على هامش ملتقى مونخ للأمن 2020، بأنّ البعثة سجّلت ما لا يقلّ عن 150 انتهاكا للهدنة منذ الإعلان عنها مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي. ومن أهمّ تجلّيات نقض التهدئة استمرار الطرفين المتنازعين (قوّات حكومة الوفاق ومعسكر خليفة حفتر) في توريد السلاح برّا وبحرا وجوّا، وفي تجنيد المرتزقة. وفي هذا السياق، تفيد تقارير متواترة بأنّ كتائب حفتر تضمّ في صفوفها مقاتلين أجانب من مجموعة فاغنر التابعة لشركة خدمات عسكرية روسية، ومن مليشيا الجنجويد السودانية، فضلا عن عناصر مصرية. وفي المقابل، يتهم آخرون قوّات بركان الغضب بتلقّي دعم عسكري تركي، والاستعانة بمقاتلين سوريين. ونفت حكومة الوفاق الوطني مرارا توظيف مرتزقة أجانب في ردّ العدوان على طرابلس. وأقرّت بوجود تعاون عسكري مع تركيا لصدّ الهجوم على العاصمة، وعلى الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، وذلك في حدود ما تسمح به مواثيق الأمم المتحدة، واتفاق الصخيرات، واتفاقيتا التفاهم والدفاع المشترك بين البلدين. ويُعدّ تبادل إطلاق النّار انتهاكا صارخا للهدنة. وتجلّى ذلك خصوصا في قصف المليشيات التي تحاصر طرابلس مواقع مدنية من حين إلى آخر، واضطرار الجيش التابع لحكومة الوفاق إلى الرّد على مصادر النيران، مبرّرا ذلك بالدفاع عن النفس، وممارسة صلاحياته الردعية. وبدا واضحا أنّ الجماعات الموالية لحفتر لا ترى حرجا في مدّ يد للتفاوض، وأخرى للسلاح في الوقت نفسه. وظهر ذلك في قصفها، في أثناء المفاوضات، بنى تحتية، ومواقع خدمية موجهة للمدنيين، ومحاولتها السيطرة على منطقة أبو قرين جنوب مصراتة. ويندرج هذا السلوك العدواني ضمن ما تعرف بالمهادنة المخاتلة، المخادعة، والتي لا تنفع عموم الليبيين، بل تساهم في تعقيد الأوضاع، ولها تداعيات خطيرة على حياة المواطنين، وعلى مسارات التسوية السلمية للأزمة الليبية. 
يفاقم استمرار الهجوم على طرابلس، منذ 4 إبريل/ نيسان 2019، واختراق الهدنة وتوسيع 
دوائر الحرب في ليبيا من معاناة المدنيين الذين يجدون أنفسهم في مهبّ حربٍ فرضت عليهم. ويجعلهم النزاع المسلّح مخيّرين بين البقاء في منازلهم وتعريض حياتهم إلى الخطر، وبين النزوح أو الهجرة بحثا عن مأوى أكثر أمانا. وفي الحالين، لا يشعر الليبيون بالاستقرار والطمأنينة. بل تربك الحرب مسار حياتهم المهنية والعائلية وحقّهم في العيش بحرّية وأمان وكرامة. وفي هذا السياق، ورد في بيان صادر عن مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أنّ 740 ألف ليبي موجودون في المناطق المتأثرة بالقتال، من بينهم 345 ألفا في المناطق الأمامية. ويعاني هؤلاء ويلات القصف والقصف المضادّ في محاور القتال. وتفيد إحداثيات الميدان بأنّ كتائب الفتح المبين كثيرا ما هتكت الهدنة، واستهدفت أحياء مأهولة بالسكان، وقصفت مدارس، ومستشفيات، ومحطّات للمياه والكهرباء. كما قصفت مطار معيتيقة المدني الدولي مرارا، على نحو عطّل المسار العادي لحياة الناس، ومنعهم من قضاء أمورهم. وبلغ الأمر بالمليشيات المهاجمة درجة قصف ميناء طرابلس الذي يعدّ الشريان الحيوي لسكّان المدينة، ومنه تصل إليهم إمدادات الغذاء، والدواء، والوقود، والغاز المسال، وغير ذلك من الحاجيات الأساسية. ويعدّ قصف هذا المرفق الحيوي من بين "العمليات العسكرية أحادية الجانب، والانتهاكات المتهورة، والهجمات الاستفزازية ضدّ البنية التحتية، المدنية، وتتعارض مع تطلّعات جميع الليبيين للمضي نحو مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا"، على حدّ تعبير سفير الولايات المتحدة الأميركية لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند.
ولم يقف مشروع الضغط على المدنيين وتأزيم حياتهم عند هذا الحدّ. بل بلغ الأمر درجة إغلاق موالين لحفتر موانئ نفطية إستراتيجية تقع تحت سيطرة مليشياته. ويعني إقفال المنشآت النفطية عمليّا ضرب الاقتصاد اللّيبي في مقتل، وتجويع الليبيين، وانتهاك حقّهم في الاستفادة من مواردهم الطبيعية، ذلك أنّ معظم موارد الخزينة العامّة للدولة تأتي من تصدير النفط. وقد أعلنت المؤسّسة الوطنية للنفط أنّ ذلك الإقفال المتعمد أدّى إلى تراجع الإنتاج إلى 122 ألف برميل يوميّا، وإلى تجاوز الخسائر المادّية سقف الملياري دولار خلال فترة الإغلاق. ونجم عن ذلك ارتفاع أسعار الوقود أضعافا خاصّة في المناطق الجنوبية، ويدفع المواطن ثمن ذلك من جيبه. ويزيد تعطيل إنتاج النفط من عزلة ليبيا اقتصاديا، ومن مخاطر التلوث الناتج عن التسرّبات وانعدام الصيانة، ويُثير حفيظة المستثمرين والمساهمين الأجانب في السوق النفطية الليبية، ويتسبّب في انقطاع إمدادات الوقود عن المواطنين. وفي هذه الأوضاع، تصعب الحياة على المدنيين، لأنّهم يجدون أنفسهم في ظلّ هدنة هشّة، مخاتلة، يكتنفها التوجّس المتبادل، وأزيز الرّصاص، وقلّة الموارد، وتدهور الخدمات. لذلك ترى كثيرين يُدفعون إلى النزوح أو مغادرة البلاد. وفي هذا الشأن، جاء في بيان صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ "آلاف الليبيين اضطرّوا إلى الفرار من ديارهم، وشهد العام الماضي نزوح 177 ألف شخص من منازلهم، بسبب القتال في مناطق مختلفة من البلاد، من بينهم 155 ألفا هجروا بسبب القتال الدائر حول طرابلس". وفسّر رئيس اللجنة، بيتر ماورير، ذلك بأنّ الليبيين "تعتريهم حالة خوف مزمن وشعور بعدم اليقين مع ازدياد صعوبة تأمين معيشتهم".
من الناحية السياسية، أشاع انتهاك الهدنة أجواء عدم الثقة، وغذّى أسباب التنافر بين المفاوضين 
الموالين لحفتر وممثّلي حكومة الوفاق الوطني الذين رفضوا بشدّة استمرار حصار طرابلس، وقصف المليشيات المهاجمة مواقع مدنية، وهددّوا بعدم استكمال المحادثات بشأن المسارين، السياسي والاقتصادي، ما لم يتمّ تحقيق تقدّم فعلي في مستوى المسار العسكري، يقضي بالالتزام بوقف نهائي لإطلاق النار، وفكّ الحصار عن طرابلس، وعودة كتائب حفتر من حيث أتت، وتأمين عودة المهجّرين إلى منازلهم.
ويمكن تفسير انتهاك الهدنة بشكل متكرّر من قوّات "الفتح المبين" بعدّة أسباب، لعلّ أهمّها عدم وجود قناعة راسخة لدى معسكر حفتر بضرورة التسوية السلمية السياسية للأزمة الليبية، وميله إلى تغليب الحلّ العسكري، لأجل استعادة النظام الشمولي ونسف نواة الدولة المدنية. يضاف إلى ذلك أنّ تركيبة الكتائب المساندة لحفتر غير متجانسة، فهي تتكوّن من مرتزقة أجانب، وعناصر سلفية متشدّدة، وأطراف قبلية، وموالين للقذافي وغيرهم، وهؤلاء ليسوا على قلب رجل واحد في مستوى موقفهم من كيفية حلّ الأزمة الليبية. ويبدو أنّ اللواء المتقاعد لا يملك ميدانيّا قوّة الضغط والضبط والتحكّم في تلك المليشيات التي ترتهن لقوى جهوية وإقليمية ودولية، استثمرت في خيار الحرب في ليبيا، ودفعت المال والعتاد والرجال للقضاء على التجربة الديمقراطية الليبية الناشئة. وهي تدفع نحو اقتحام طرابلس باعتبارها محضن الثورة، ومركز الثقل البشري والمؤسّسي والسيادي في البلاد. وتعتبر تلك الأطراف أيّ تراجع إلى مواقعها الخلفية لا يخدم طموحها في الاستيلاء على الحكم بالقوّة في ليبيا. ومعلوم أنّ هذه التوجهات العدوانية تربك مسارات التهدئة، وتؤجّل مشروع خروج الليبيين من مربّع العنف إلى رحاب السلام والاستقرار.
ختاما، أمام تشتّت المشهد اللّيبي، وحرص أطراف في الداخل والخارج على إجهاض مخرجات مؤتمر برلين، والاستمرار في خيار الحرب وتأزيم أوضاع المدنيين، يفترض أن تمسك الأمم المتحدة بزمام المبادرة، وتعمل على تحويل الهدنة إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار مع فرض عقوبات ردعية فعلية على المخالفين، وإلزام المتنازعين بعدم أذية المدنيين، وضمان عودتهم الآمنة إلى ديارهم. ومن المهمّ أن تضغط القوى الدولية الوازنة (خصوصا الولايات المتحدة، بريطانيا، الاتحاد الأوروبي) من أجل بلورة حلّ سياسي، لا عسكري، للأزمة الليبية. ويقتضي ذلك وضع حدّ لتمدّد المليشيا على حساب الدولة، ورفع يد الكتائب عن النفط، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع لتأمين التداول السلمي على السلطة. ويبعث ذلك رسائل طمأنة إلى الليبيين، ويخبرهم بأنّ المجتمع الدولي لم يتركهم للمجهول.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.