17 سبتمبر 2024
بيريز والعتيبة.. شرق أوسط جديد
عندما تحدث السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، عن استراتيجيا نظام دولته، ومن تحالف معها، حول ما سمّاه السعي إلى رؤية شرق أوسط جديد في العشرية المقبلة، تحكمه أنظمة علمانية قوية ومستقرة، كان واضحاً أن الخطاب في ظاهره محاولة لتقديم رؤية سياسية ترضي القوى الغربية النافذة والقلقة بشأن مصالحها في المنطقة، غير أن قراءةً متأنية لما طرحه الشخص المعني، وربطه بالأحداث الجارية في المنطقة، يحيل إلى نقاط أساسية بين السطور، حاول صاحبها ممارسة أشكالٍ من التعمية عليها، بمحاولة تمرير مغالطاتٍ متعدّدة لذهن الجمهور المتلقي.
ليست علمانية الأنظمة في المنطقة العربية أمراً جديداً، أو مطلباً مستحدثاً. وتدرك كل مراكز الدراسات الغربية أن غالبية الأنظمة العربية المعنية بحديث السفير إنما هي، في جوهرها، دول علمانية من جهة الواقع والممارسة، وإن لم تعلن هذا المبدأ واضحاً في دساتيرها، وهي علمانية مشوّهة، إن صح التعبير، بمعنى أنها توظف الخطاب الديني لإضفاء المشروعية على أنظمة حكمها، ولتبرير ممارساتها السياسية المنغلقة، وأن النظام الوحيد في دول الحصار الذي يعلن تبنيه صراحةً الشريعة، ويعتبرها أساساً لشرعية الحكم، ومصدراً للتشريع، هو نظام المملكة السعودية، فهل كان يقصد السفير بكلماته هذه الدولة التي يتحالف معها؟ وهل هو بصدد تقديم صكّ براءة من كل التوجهات الإسلامية بنوعٍ من التورية من أن المستقبل السياسي سيغير بنية أي نظامٍ يعلن تبنيه الهوية الدينية نحو رؤيةٍ علمانيةٍ على الطريقة العربية، حيث يتواشج الاستبداد السياسي مع أشكالٍ من الانغلاق الديني؟
يتغاضى السفير، من جهة أخرى، عن مسألةٍ أساسيةٍ، يعلمها كل مراقب موضوعي، وهي أن أزمة الدول العربية لا تعود إلى ما يعتقده العُتيبة حول تبنيها العلمانية من عدمها، بقدر ما يرتبط أساساً بطبيعتها الاستبدادية وسياساتها الفردية التي تستبعد الرأي العام الشعبي من المساهمة في القرار السياسي الذي يخص بلدانها، فأزماتٌ من قبيل الطائفية وصراعات الهوية وحالة التذمر الشعبي التي تشهدها دول المنطقة، بما فيها دول التحالف التي يزعم الحديث باسمها، إنما تعود، في جوهرها، إلى غياب سياساتٍ فعليةٍ تعبّر عن الإرادة العامة وتحترم الخيارات الشعبية.
أما ما يخفيه الخطاب الذي يحاول السفير المذكور تبنيه وترويجه باعتباره من بنات أفكاره وإبداعاته السياسية، فهو أن هذا التصور هو في الأساس ما طرحه شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" (صدر في 1993)، ويعبر فيه عن المخاوف نفسها التي تحدث عنها السفير، وتتلخص في ضرورة محاربة القوى السياسية الأصولية الإسلامية من جهة، وظهور أنظمة عربية ذات قابلية للتعاون مع الكيان الصهيوني لبناء ما سماه الشرق الأوسط
الجديد. ولأن أفكار بيريز حينها لم تجد الصدى الكافي لدى الجمهور العربي، فيبدو أن أنظمة عربية معينة سارعت إلى استعادة هذا الخطاب وترويجه ممارسة وفكراً. ويؤيد هذا الطرح تسارع خطوات التقارب بين دول حصار قطر والكيان الصهيوني بشكل مثير للريبة، بداية من الاشتراك في شيطنة كل أشكال المقاومة، ومروراً بمحاصرة قطر بوصفها دولة داعمة لقوى التحرّر المناهضة للمشروع الصهيوني، ووصولاً إلى الحديث عن أنظمة عربية قوية مستقرّة، بمعنى أنظمة حاكمة قادرة على تمرير الأجندات الخفية التي تخدم مصالح الصهاينة في المنطقة. وبنظرةٍ سريعةٍ لترتيب الأحداث الجارية، يمكن أن نلاحظ القلق المشترك والسعي المتماثل بين دولة السفير العتيبة ودولة الصهاينة من الربيع العربي، ومحاولة إجهاضه قبل أن يشتد عوده. وفي الوقت نفسه، نرى أن دول الحصار ومن تابعها اتخذت خطواتٍ لمزيد من التضييق على المقاومة، بداية من تدمير الأنفاق على حدود غزة، ومن ثم وصم المقاومة بوصف الإرهاب، وأخيراً حصار قطر، والمطالبة بإغلاق قناة الجزيرة التي تشكل هاجساً مؤرقاً لدول التحالف الجديد. ثم ألم يبادر الكيان الصهيوني إلى إغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس، مبرّراً قراره باستناده إلى "إغلاق دول عربية سنية مكاتب الجزيرة لديها وحظر عملها". إن فكرة شرق أوسط جديد تهيمن عليه أنظمةٌ لا هوية لها، وتخدم سياسات الاحتلال الصهيوني، هي جوهر الطرح الذي يقدمه العتيبة، وخصوصاً أن فكرة العلمنة لا تعني شيئاً من الناحية الواقعية، بقدر ما هي محاولة لإضفاء هالةٍ من التبرير الإيديولوجي الفاقدة أي معنى لمنح التحالف الصهيوني العربي القادم فرصة التشكل، بعيداً عن عوائق التاريخ.
إن محاولة تمرير مشروع صهيوني في المنطقة، ومن خلال لباس عربي هذه المرة، لن يشفع لأصحابه أمام الرأي العام العربي ممارسة أشكالٍ من البلطجة السياسية ضد دولة عربية شقيقة ومجاورة، فقد أثبتت الوقائع أن مصير كل هذه الخيارات الفشل والزوال.
ليست علمانية الأنظمة في المنطقة العربية أمراً جديداً، أو مطلباً مستحدثاً. وتدرك كل مراكز الدراسات الغربية أن غالبية الأنظمة العربية المعنية بحديث السفير إنما هي، في جوهرها، دول علمانية من جهة الواقع والممارسة، وإن لم تعلن هذا المبدأ واضحاً في دساتيرها، وهي علمانية مشوّهة، إن صح التعبير، بمعنى أنها توظف الخطاب الديني لإضفاء المشروعية على أنظمة حكمها، ولتبرير ممارساتها السياسية المنغلقة، وأن النظام الوحيد في دول الحصار الذي يعلن تبنيه صراحةً الشريعة، ويعتبرها أساساً لشرعية الحكم، ومصدراً للتشريع، هو نظام المملكة السعودية، فهل كان يقصد السفير بكلماته هذه الدولة التي يتحالف معها؟ وهل هو بصدد تقديم صكّ براءة من كل التوجهات الإسلامية بنوعٍ من التورية من أن المستقبل السياسي سيغير بنية أي نظامٍ يعلن تبنيه الهوية الدينية نحو رؤيةٍ علمانيةٍ على الطريقة العربية، حيث يتواشج الاستبداد السياسي مع أشكالٍ من الانغلاق الديني؟
يتغاضى السفير، من جهة أخرى، عن مسألةٍ أساسيةٍ، يعلمها كل مراقب موضوعي، وهي أن أزمة الدول العربية لا تعود إلى ما يعتقده العُتيبة حول تبنيها العلمانية من عدمها، بقدر ما يرتبط أساساً بطبيعتها الاستبدادية وسياساتها الفردية التي تستبعد الرأي العام الشعبي من المساهمة في القرار السياسي الذي يخص بلدانها، فأزماتٌ من قبيل الطائفية وصراعات الهوية وحالة التذمر الشعبي التي تشهدها دول المنطقة، بما فيها دول التحالف التي يزعم الحديث باسمها، إنما تعود، في جوهرها، إلى غياب سياساتٍ فعليةٍ تعبّر عن الإرادة العامة وتحترم الخيارات الشعبية.
أما ما يخفيه الخطاب الذي يحاول السفير المذكور تبنيه وترويجه باعتباره من بنات أفكاره وإبداعاته السياسية، فهو أن هذا التصور هو في الأساس ما طرحه شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" (صدر في 1993)، ويعبر فيه عن المخاوف نفسها التي تحدث عنها السفير، وتتلخص في ضرورة محاربة القوى السياسية الأصولية الإسلامية من جهة، وظهور أنظمة عربية ذات قابلية للتعاون مع الكيان الصهيوني لبناء ما سماه الشرق الأوسط
إن محاولة تمرير مشروع صهيوني في المنطقة، ومن خلال لباس عربي هذه المرة، لن يشفع لأصحابه أمام الرأي العام العربي ممارسة أشكالٍ من البلطجة السياسية ضد دولة عربية شقيقة ومجاورة، فقد أثبتت الوقائع أن مصير كل هذه الخيارات الفشل والزوال.