باشا ماما*

باشا ماما*

12 مايو 2015
+ الخط -
بعد قليل سأترك "سان بيدرو دي آتاكاما"، واحة الصحراء الخاتلة تحت جبال الآنديز. سأتركها وفي نفسي شيء منها. أحببت الهنود الصامتين مثل صخور الآنديز المقدّسة. أحببت البراكين المتحَفِّزة للانفجار. أحببتُ الضوء والضياء. وماذا أيضاً؟
في طريق العودة، نخترق الوديان والانهدامات. كتَل حُمْرٌ مشويّة بالشمس تركها الهنود وحيدة في عراء الكون. لماذا تَخَلّوا عن هذه الكنوز الأرضية ذات الطبيعة القُرْمُزية؟
مُسَنَّنات من الأعالي تهبط بقسوة نحو القاع. مَشْقوقات من البُنْية الجبلية. فُجوج مثل فُجوج جَسَدٍ مَذْبوح. وسُهَيْلات صغيرة يُـلَـوِّثُها الذَرار الأبيض الملْحيّ الذي تَـذْروه رياح الشمال القادمة من البيرو. وأشياء أخرى لا تحيط بها اللغة.
هذه الطبيعة الشيطانية تملؤني بالرغبة في البكاء. ولكن كيف يمكن أن يفيض دمعي، والجفاف الكوني الذي يشْوي هذه الصحراء الصابرة، يشويني؟ يُحيلُني إلى كائن آخر مملوء بالصمت والقلق. وأصير أتنَفَّس بهدوء، وعمق، ساحباً بصري من أعالي الجبال لأصبّه على الهضبة التي أصبحتْ لصق عينيَّ. وأسمعها ترحب بي بحنان، مثلما كانت تفعل أمي: يا هلا بالقادمين من بعيد. وأردّ التحية بأحسن منها، وبأعلى صوتي، من دون الاهتمام بمَن حولي من العابرين: سلاماً، أرض الهنود، سلاماً.
بعد ساعات من السفر في الصحراء، نصل إلى قرية "شيو شيو": العندليب، في أقصى الشمال التشيلي. فيها نرتاح قليلاً قبل متابعة انحدارنا نحو سانتياغو في الوسط.
عندما يتكلّم الآخرون أفكِّر. أبتعد عنهم قليلاً، عَلَّني أجد نَفْسي. في منتصف الطريق الصحراوي، تحت الشمس اللاهبة مثل شمس "الجزيرة"، وفي مَعْمَعَة العَجاج الصاعد نحو الغيم، أقف. أقف وأكتب، متسائلاً: "إلى هنا وصل الغزاة؟ إلى هذا القفر النائي، يا رجل؟". وأدرك أنه لا حَدَّ للتوسُّع عندما يبدأ. والتوسّع ليس جغرافياً فقط. قد يكون ثقافياً، أو علمياً، أو سلوكياً، أو حتى نمط حياة. لماذا لا نفهم ذلك نحن العرب؟
في القفر أكتبُ. أكتب وأنا أُلاحق الغبار. غُبار العَنْدَليب "شيو شيو" في أعالي الآنديز. غبار"العندليب" الذي اختفى من هذه الأنحاء، مع الهنود إلى الأبد.
بوكارا دي لاسانا
على طريق العودة نحو سانتياغو، نتوقّف عند خرائب "بوكارا دي لا سانا"؛ الحاضرة الهندية التي دمَّرها الإسبان عام 1532، عندما وصلوا إلى هذي القفار والوديان.
كانت "بوكارا" عامرة ومزدهرة، كما يقولون. تدلّ على ذلك أبنيتها المتراصفة بنظام مدينيّ قويم، والمتراكب بعضها فوق بعض طبقات على نمط البناء الحَضْرَموتيّ في اليمن الذي كان "سعيداً". أنشأها، أوّل مرّة، الهنود "الأتاكامانَيزْ"، وهم السكان الأصليون لصحراء "آتاكاما". من بعدهم، حَصَّنَها الهنود "الأنْكا" الذين استولوا عليها بعد حروب ومعارك متكرّرة.
كان "الأنكا" يتمتعون بطاقة عسكرية قوية، وبشبكة رَيّ حديثة بالنسبة لتلك العصور. وقد جَلَبوا لهذه الحاضرة ولنواحيها الخصب والازدهار. وجعلوا من هذا الوادي المهيب، مركزاً نامياً وحيوياً، آنذاك.
كان العداء شديداً بين الأنكا وجيرانهم الأتاكامانيز. وهذا العداء هو الذي سَهَّل احتلال الإسبان للمنطقة، من دون خسائر كبيرة. وقد عرف الإسبان كيف يغذّونه ويستغلّونه إلى أكبر حدّ ممكن، من أجل إخضاع هؤلاء وأولئك. استغلّوا العداء "البدائي" بين قبائل الهنود ليفرضوا سيطرتهم عليهم، ويقيموا مراكزهم "المتحضّرة" في قلب عالَم لم يكونوا يحلمون بمثله (يذكّرني هذا بحالنا في العالم العربي، اليوم. فنحن هنود العصر الحديث، بكل تأكيد. وإنْ كانت لذلك أسباب ومعادلات أخرى).
في خرائب "بوكارا"، نرقى القلعة القديمة، التي لا يقلُّ علوّها عن عُلْو برج بابل الأسطوري. وقد أصبحت، اليوم، بعد التدمير الذي لَحِقها، خرائب، وكُسورات، وقلاقِل ترابية، وحُجَيْرات مُهشَّمة، وأساطير. أصبحت أكواماً من الحجر والطين، فوق هضبة عالية، تحيط بها الوديان من جميع الجهات.
على مقربة من هذه الآثار الكونية، أُقيمَتْ القرية الحديثة. أما القلعة الأسطورية المهدّمة، فقد أصبحت مقدّسة بالنسبة للهنود الحاليين. لا لسبب ميتافيزيقي، عُلْويّ، لا يمكن التحقّق منه، ولكن لأن "الرجال الطيبين"، الذين هم أجدادهم الأوائل، ماتوا فيها، وهنا دُفنتْ أجسادهم. وهو ما يعني بالنسبة للهندي الامتزاج الكامل بين الكائن والمكان. فوجب تقديسه.
باشا ماما
بعد الرحيل عن "سانْ بيدْرو دي آتاكاما"، واحة الصحراء التشيلية الخاتلة تحت حنايا الآنديزْ، أعود إلى سانْتياغو، أعود إلى باريس. أعود بعدها إلى لا مكان.
مكاني أنا، "أرضي الأم"، أو "باشا ماما" الخاصّة بي، بلغة الهنود المُعَـبِّـرة، صارت بعيدة، بعيدة جداً، تكاد لا تُرى بالعَيْن. سأتصرَّفُ، إذن، مثل هنديّ طُرد من أرضه الأم، من "باشا ماما" الخاصة به، ويجد نفسه مضطراً للعيش في أماكن أخرى، ولو مؤقَّتاً.
سأعود وفي قلبي لوعة. ومَـنْ يعرف سبب تَلَـوُّع الكائن غير أرضه الأم؟ غير"باشا ماما" الصابرة التي تظلُّ ساكِتَة، لا تعـبِّر، قصداً، عمّا تحس به حتى لا تفْقد ميزتها الأساسية؛ ميزة "الأرض الأم"، خازنة الأسرار، التي تبقى صامتة إلى أن يعود إليها الذين هَجَروها. فتصرخ: آه!

* مقاطع من كتاب "الصقر على الصبّار"

المساهمون