القدس.. ما العمل؟

12 ديسمبر 2017
+ الخط -
قبل أقل من عامين، كنت عائداً من عكا باتجاه رام الله، مروراً بالقدس. كان ذلك في مساء يوم جمعة، ما يعني أن السبت اليهودي قد بدأ، وتعطلت حركة المواصلات العامة، وخفّت حركة الناس عموماً. وصلت وزميلي إلى باب الخليل، غربي القدس القديمة، بعيد منتصف الليل بقليل، وكان علينا أن نعبر شوارع المدينة القديمة نحو باب العامود عند طرفها الشمالي، حيث افترضنا أنه يمكننا إيجاد وسيلة مواصلات، تقلّنا إلى رام الله التي فيها كنا نقيم.
بدت أزقة المدينة القديمة خالية إلا من جماعات من المتدينين اليهود يتجمعون عند مدخل الحي اليهودي، وكانت المحلات التجارية مغلقة ببواباتها الحديدية الكبيرة المميزة، الملونة بالأخضر أو الأسود، فيما كانت إضاءة المدينة العتيقة خافتة، بشكلٍ أضفى عليها طابعاً حزيناً لا تخطئه العين. وقبلها بيومين، كنت تجولت في القدس القديمة، وزرت قبة الصخرة وصليت في الأقصى، وتمشيت في السوق وتحدثت مع التجار الفلسطينيين. القدس مدينة حية، حتى وإن كانت محتلة، وهويتها العربية بادية للعين من ساحة المسجد الأقصى حتى ساحة كنيسة القيامة، لكنها في ليلة السبت تلك بدت حزينة باكية، وحجارتها واجمة عاتبة.
تذكّرت حجارة القدس، حين أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اعترافه بمدينتنا المقدسة عاصمة للكيان الصهيوني، فانتابني خجل منها أن تكون مساهمتي في الموقف مجرد كلمات مكرورة عن الاستنكار والتنديد، أو حتى كلمات متحجرة أبدّد بها طاقة الغضب.
تذكّرت أيضاً ما أؤمن به أن احتلال فلسطين نتيجةٌ وليس سبباً: إنه نتيجة تخلفنا الحضاري، وليس سبباً له كما يعتقد من يظن أن الغرب غرس إسرائيل في خاصرتنا كي يديم تأخرنا. 
وعلى هذا، كان تحرير فلسطين يحتاج منذ اليوم الأول، كما يحتاج اليوم، العمل للخروج من أزمتنا الحضارية العميقة، والعودة إلى مسار التاريخ الإنساني، والمشاركة فيه، بل والتأثير فيه.
العالم لا يحترم إلا الأقوياء. تلك قاعدة نحفظها عن ظهر قلب. لكن الأمم لا تتحول من الضعف إلى القوة فجأة، ولا تتحول إليها بامتلاك السلاح وحسب، فالسلاح في يد "الأحمق" يجرح. ثمّة مسيرة من البناء المدني، تشمل التعليم والقيم والسلوكيات ومنظومة التفكير، تشمل بنية المجتمع وآليات التصعيد فيه نحو مواقع صناعة الأحداث اليومية والتأثير في القرارات الاستراتيجية، وتشمل، من دون شك، ردم هوة التكنولوجيا مع الآخرين، عبر حسن توظيف الموارد الوطنية في هذا التنافس العالمي المحموم.
كل هذا قصّر العرب فيه كثيراً. خضنا المعركة بالميكروفونات، وخاضوها هم بالتخطيط والتطوير وبناء المصالح مع العالم. ضيفة أجنبية غير متدينة، زارت عمّان قبل شهور، وسألتني: هل تؤمنون حقاً أن تلك الأرض غربي النهر، لكم؟ قلت: طبعاً. قالت: لكن الله وعد اليهود بها! قلت: هل هذه نكتة؟ إنك حتى لا تتبعين أي دين! قالت: هم لديهم تطور علمي كبير، معظم صانعي أجهزة الكمبيوتر في العالم يعتمدون على قطع مصنّعة في "إسرائيل".
تلك هي الحقيقة الكاملة: الحق لا يعود حقاً ما لم تكن ثمة شبكة من عناصر القوة تدعمه؛ شاملة بنية المجتمع ومعارفه، وأدوات الدولة وآلياتها، وتنوع خياراتها، الاقتصادية والعلمية، كما السياسية والعسكرية.
أسهل عمل، ولكن أكثره سوءاً برأيي، هو الانخراط في الصراخ والعويل الرسمي والشعبي الدائر، فيما أن أصعبه وأحسنه هو السعي إلى تغيير الواقع وصناعة المستقبل، كلٌ من موقعه، وعلى قدر المساحة المتاحة له مهما صغرت، في البيت والشارع والسوق والمكتب والملعب. تلك حكاية الشمعة والظلام التي نحفظها جميعاً، ولا يعمل بها إلا قلة منّا.
هل تحبّون القدس وتغضبون لها؟ تعالوا نساهم قدر استطاعتنا في نشر بذور نهضة الأمة، وإخراجها من مأزقها الحضاري المعقّد، كلٌ من موقعه. تعالوا نضع هذه الفكرة هدفاً دائماً وواضحاً، نصب أعيننا.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.