الفراغ الذي تركه الإمام الشعراوي

الفراغ الذي تركه الإمام الشعراوي

11 نوفمبر 2019
+ الخط -
ذات يوم كان الإمام يحاور متشددا لإقناعه بالعدول عن فكره المتطرف لعله يهديه إلى سواء السبيل، سأل الشيخ الشاب المتطرف: هل يجوز تفجير الحانات وقتل روادها؟

أجاب الشاب: نعم.
فقال الشيخ متمعنا: وأين تراهم إذا قتلوا؟
قال الشاب: في النار.
فبادره الشيخ بالسؤال: وهل هذا يسعد الشيطان أم يحزنه؟
قال الشاب: بالطبع يسعده فالشيطان يريدهم في النار.

فقال الشيخ: فهل نحن في ديننا نفعل ما يريده الشيطان، هل نسعى لإدخال الناس النار أم لإدخالهم الجنة؟
بهت الشاب المتطرف من بداهة الشيخ وقدرته الفائقة على الإقناع وسعيه لنشر الخير وإيمانه بأن الداعية ليس قاضيا وأن هدف ديننا الأسمى هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان هذا من مذكرات تناقلها الناس إلى يومنا هذا عن إمام قل نظيره، كان هناك في أرض المحروسة وسطيا معتدلا قل نظيره في تفسير القرآن والحديث وفي القدرة على الإقناع وأوتي فصل الخطاب وحلاوة اللسان وهو من الأئمة القلائل الذين اجتمع الناس في بلاد المسلمين على حبهم والاقتناع بكلامهم.


هو محمد وقد حمد الناس فعله وعلمه، ومتولي حيث تولى التفسير وشرح معاني القرآن حتى سهل على الناس فهمه وأحبوه على لسان الشعراوي، لم يكن يوما متعصبا لفكرة أيديولوجية فقد علمنا وعلم الأجيال في وقته وبعده، أن الدين شامل وكامل وليس أصوليا متعصبا، وهو الذي عاصر السلفية الفكرية حين كانت في عزها، وليس تاجر دين مقرباً من السلطان فقد كان ينتقد الظلم ويجهر بذلك.

ولا هو بالذي اعتزل السياسة وحرّمها على الناس فقد عمل وزيرا للأوقاف في عهد السادات وعاصر مبارك وهو في عزّه، وقد نصحه تلك النصيحة الشهيرة التي لا يجرؤ كثيرون على فعلها اليوم، حين قال له واضعا يده على كتفه: إن كنت تريد بنا خيرا فأسأل الله أن يعينك علينا وإن كنت تريد بنا شرا فأسأل الله أن يعيننا عليك. أَمثلُ هذا يتهم بالتطرف والتعصب وهو النموذج الوسطي الشامل؟ إنها هجمة شرسة على شيخ له في نفوس الناس مكانة ومحبة، وهي في الأصح تحمل بداخلها ما خفي من حقد على كل نموذج صالح يجتمع الناس حوله حتى إذا تفرقوا سادهم الحاكم الظالم، ألم يقولوا قديما: فرق تسد، ها هو السيسي ومخابراته يضربون كل شيء حتى القدوة في نفوس الناس.

سأل أحد الفلاسفة والمفكرين المعاصرين كيف تهدم المجتمعات، فأجاب: بثلاثة أمور، عليك أولا بهدم الأسرة وذلك عن طريق الاستخفاف بدور الأم كربة منزل وجعلها تنفر من وظيفتها، ثانيا عليك بالمعلم وتحقيره وتسفيهه، ثالثا ضرب القدوة وإسقاط القدوة في نفوس الناس، وتلك هي الاستراتيجية التي يتبناها نظام السيسي من خلال الهجوم الشرس على كل نموذج مسلم محبوب بداية بصلاح الدين وليس انتهاء بالشيخ الشعراوي، حتى إذا خلا المجتمع من ذكر هؤلاء إلا بالسوء استبدلوا بغيرهم ويا ليت لهم من العلم نصيب، فالبديل هو نهج محمد رمضان والأم المثالية هي الفنانة والراقصة الأشهر فيفي عبده فهم قادة المجتمع المصري في عصر السيسي.

إن الإنسان في حياته يتغير كل يوم ويخضع لقوانين لا يعلم عنها شيئا فهو في حالة اليقظة له قانون وعند نومه له قانون، مقولة شهيرة لشعراوي مقتبسة من كتاب نهاية العالم، هي الأقرب للقراءة السليمة لواقعنا اليوم وواقع المحروسة التي فقدت أمثال الشعراوي كثيرا حتى بات لأولئك فيها كلمة مسموعة ولا يشفع لهم من العلم إلا أن آباءهم قدموا أدوارا أمام الشاشة لأنفسهم ضرها على المجتمع أكثر من نفعها، إن الإنسان في حياته يتغير كل يوم وفي مصر وشقيقاتها يتغير كل ساعة فكرا وفعلا وقولا صدق الشعراوي وصدقت كلماته وبقيت، وكذب المدعون عليه فهو أكبر منهم بكثير مقاما وقدرا وعلما.

ترك الشعراوي فينا فراغا كبيرا لم نجد بعد من يملؤه، فنحن نحتاج الإمام الذي يلتف حوله الناس يخطب بقلبه قبل لسانه، نحتاج شيخا معاصرا يحكم عقله ويواكب عصره لا شيخا يلغي عقله وعقول محبيه إرضاء لرغبات السلطان والشيطان، نحتاج شيخا يحمر وجهه عند ذكر الظلم والمظالم ويعلو صوته حتى يزلزل عروش الظلمة لا الذي يصرخ في وجوه الناس عن الفروع ويسكت عن الأصول، إن كان الشعراوي قد مات فلا يزال حيا في نفوس الناس. وعند الله تجتمع الخصوم..

دلالات

D127B5A7-B6C4-4CC3-AB0D-021CE7601547
الشيخ محمد المختار دي

صحافي بفضائية القناة التاسعة وكاتب بمواقع عربية. حاصل على إجازة أساسية في علوم الإعلام والاتصال من معهد الصحافة بتونس، وعلى بكالوريوس أداب من جامعة نواكشوط، ومقيم في إسطنبول.