العرب والدرجة القصوى للارتباك السياسي

العرب والدرجة القصوى للارتباك السياسي

08 نوفمبر 2018
+ الخط -
تواجه المجتمعات العربية اليوم، وبدون استثناء، أوضاعاً خاصة، على الرغم من كل الأبواب التي فُتِحَت أمامها بعد ثورات 2011. ويشعر المتابع للوقائع الجارية في كثير من هذه البلدان بخوفٍ كثير، وهو يلاحظ كيف عادت أنظمة الاستبداد والفساد إلى مواصلة تحكُّمها وأساليب سطوتها المعهودة، على الرغم من أنها تواجه اليوم ليس فقط من بعض نخب المجتمع المدني والسياسي داخلها، بل تواجه أيضا من جيوش شبكات التواصل الاجتماعي. وإذا كان مؤكّدا أن تداعيات الفعل الثوري العربي لن تترك الأمور تسير على هوى الحكام، وأنه لا يمكننا التنبؤ بما هو محتمل الحصول اليوم أو غداً من زوابع وانفجارات في أكثر من مجتمع عربي، فإن ذلك كله لا ينبغي أن يجعلنا نُغْفِل فعل المدّ الإعلامي المتحرك ومفعوله في الوسائط الاجتماعية، على الرغم من وعينا بأن صور تحرّكه لم تنتظم بعد في قنواتٍ محدَّدة، وأنها على الرغم من تغذيتها الوعي العام تعجز أحياناً عن تصريف مواقفها وأفعالها في الساحات العمومية.
واضحٌ أن النخب السياسية والمثقفة في مجتمعاتنا، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت في عمليات توجيه الثورات العربية ظلت عاجزةً عن مواجهة مسارات خَلْط الأوراق التي ساهمت مليشيات الأنظمة الفاسدة والقوى الدولية والإقليمية، في التخلص منها، كلٌّ لمصالحه وحساباته الخاصة. وإذا كنا نؤمن بأن الثورات في التاريخ تُنْجِب في الأغلب الأعم ثوراتٍ مضادّة، إلا أن الدروب والمجاري التي تحفرها الثورات لا يمكن مَلْؤُها دائما، صحيحٌ أنه سيكون في وسع بعض صور التَّمَلْمُل الاجتماعي التي تعرفه بلدان عربية كثيرة اليوم أن تُتيح للشباب العودة إلى الانتفاض مجدّداً، ومواصلة مجابهة مختلف مظاهر التراجع والانكفاء.
عندما نُتابع ما يجري في السعودية وفي سلطنة عمان، ونعاين ما تقوم به دول التحالف العربي في اليمن، وما يجري اليوم في سورية، ونراقب نوع التدابير التي تقوم بها إيران وتركيا 
والولايات المتحدة والدول الأوروبية في المشرق العربي، ونتأمل الأبواب المسدودة في ليبيا، وما يجري اليوم في تونس والمغرب والعراق ومصر والأردن، سنجد أنفسنا أمام مشهد سياسي مُرْتَبِك، تحكمه، في الأغلب الأعم، ردود أفعالٍ لا تعير أدنى اهتمام للمصالح والطموحات القُطرية والقومية. وهي توجه عنايتها أساساً إلى كيفية استمرارها على رأس السلطة. وعندما يُطْرَح عليها سؤال الديمقراطية وتداوُل السلطة، تبتكر حِيَلا ومخارج عجيبة، فتنشئ مجالس للتشاور وإبداء الرأي مناسبةً لمقاساتها الخاصة في نمط الحكم. وفي مقابل ذلك كله، لا تتردَّد في بيع أوطانها للقوى الدولية والإقليمية التي توظف خياراتها الإستراتيجية، لتوسيع مجال هيمنتها.
اختلطت أوراق المشهد السياسي في أغلب الساحات العربية، ولم يعد بإمكان المسؤولين السياسيين والمواطنين العاديين إدراك طبيعة ما يجري أمامهم. يمكننا أن نتحدّث هنا عن درجةٍ قصوى من الارتباك في الرؤية وفي الفعل. كما يمكن أن نتحدّث عن انسداد الآفاق ووعورة السبل.. وما يزيد الأوضاع تعقيداً، هو عدم قدرة منطق التحليل السياسي العقلاني على بناء المعادلات السياسية الضابطة سيرورة الأحداث، والمساعدة في عملية رسم السيناريوهات المحتملة، فقد منعت درجات الاضطراب القصوى إمكانية فرز المعطيات، وترتيب أسبابها ونتائجها. ويفترض أن يتجه البحث في المآل الراهن عن أدواتٍ جديدةٍ قادرةٍ على مواجهة صور الاختلاط المعتمة، والمفجرة حالات من الغليان، أغلبها تمظهر أخيرا في شبكات التواصل الاجتماعي، صانعاً وسائل ضغط جديدة، لا نستطيع، إلى حدود هذه اللحظة، معرفة النتائج التي يمكن أن تترتب عنها في الواقع العربي.
لم يعد مشهدنا السياسي ملكاً لإرادتنا المستقلة، ولم يعد ملكاً لآخر يتّجه إلى خدمة مصالحه، بناءً 
على مقدمات ومعطيات محدّدة، فكثير من مظاهر الخراب التي لحقتنا صنعت داخل مجتمعاتنا بفعل تفاقم أزماتنا الداخلية، وعجز معارضتنا عن تدبير تداعيات الثورات التي نجحت في بعض مجتمعاتنا. وكثير من مظاهر خرابنا أيضاً صُنِع بفعل ترتيبات مدبّرة من قوى خارجية، وبتوسط مليشيات أنظمة الفساد في مجتمعاتنا..
أتصور أننا سنواجه، في المدى المنظور، أعاصير جديدة وعواصف رملية ومائية عالية. شواهد عديدة من رعب المشهد السياسي العربي تجعلنا أمام ارتباك أشمل وأعظم، فلا يعقل وسط ردود الفعل التي ننشئ على مبادراتٍ يتم إملاؤها عنوة، أن لا نرسم لظواهر ارتباكنا السياسي البرامج المساعِدة على تخطّي ما نواجه من صعوباتٍ وتحديات، فهل نستطيع، بناء على ما سبق، تركيب ما يساعدنا على وقف مسلسل الارتباك؟
لا ينبغي أن ينهك جسمنا العليل والمشتعل اليوم في فلسطين والعراق وسورية واليمن وليبيا أرواحنا، فقد مهد طغاةٌ كثيرون في واقعنا لكثير من مظاهر المهانة التي كسرت في دواخلنا عزةً مفقودة، وحركات الطغاة الجدد التي تواصل عربدتها في الأرض العربية لا ينبغي النظر إليها قدرا تاريخيا، بل ينبغي استيعابها ضمن سياق تاريخ موضوعي، نحن طرف من أطرافه. ويلزمنا شحذ الفكر والفعل، للتمكّن من رسم معالم جديدة في طريق المواجهة، أي في طريق تأسيس ما يسمح بالتجاوز.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".