العراق الغريب على الشاشة الصغيرة

العراق الغريب على الشاشة الصغيرة

06 ديسمبر 2014
صيّادون على ضفاف دجلة (بغداد، 1959)
+ الخط -

يستغرب كثير من المهتمين بالفن اليوم أو العاملين فيه من أن العراق لم يستطع حتى اللحظة أن يقدم إنتاجاً مرئياً يضاهي الطاقات الموجودة فيه، أو أن يكسر طوق المحلية عن الدراما العراقية التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي.

نشأت الدراما العراقية متأثرة بأجواء المسرح، واستطاعت أن تقدّم في بداياتها بعض الأعمال الاجتماعية والكوميدية التي أحدثت ضجة في المجتمع آنذاك، لا سيما مسلسل "تحت موس الحلاق" الذي ناقش العديد من الظواهر الاجتماعية في إطار كوميدي ساخر.

لكن هذا الفن لم يستطع أن يُنشىء مدرسة خاصة به، فبقي أسير التأثر بالإنتاج العربي الوافد، خصوصاً المصري، بل وبدأ يستعين حتى بتقنياته ورؤيته الفنية وطريقة تعاطيه مع القضايا الاجتماعية، فظل المشاهد العراقي البسيط مشدوداً إلى التجارب القادمة من الخارج باعتبارها أكثر حرفية وعمقاً وربما اقتراباً من مشاكله، رغم ظهور أعمال فنية صنّفت بأنها ذات قيمة فنية عالية في السبعينيات والثمانينيات، كمسلسل "أعماق الرغبة" و"بيتنا وبيوت الجيران" و"الأماني الضالة" و"نادية" و"فتاة في العشرين" و"أجنحة الثعالب" و"الذئب وعيون المدينة" وجزؤه الثاني "النسر وعيون المدينة" الذي كان عملاً عراقياً من إخراج المصري الراحل إبراهيم عبد الجليل، ترك بصمة مميزة في تاريخ الدراما العراقية.

تقف الدراما العراقية اليوم أمام تحدٍّ كبير ما زالت تبحث عن إجابة له حول السبب في عدم انتشارها عربياً: هل هي صعوبة اللهجة العراقية؟ أم ضعف الإنتاج وانخفاض أجور الممثل العراقي مقارنة بنظرائه العرب؟ أم محلية القضايا التي تناقشها وعدم إثارتها لاهتمام المشاهد العربي؟

منذ البداية كان سؤال اللهجة ملحّاً: هل الدراما العراقية مفهومة؟ هل تقف اللهجة العراقية عائقاً أمام انتشارها؟ يقول السيناريست صباح عطوان لـ"العربي الجديد" إن اللهجة العراقية قد تكون صعبة وغير مفهومة بشكل جيد في منطقة المغرب العربي ومصر، لكنها مفهومة ومتداولة في الخليج العربي وبلاد الشام، وهي ليست أكثر صعوبة من اللهجات الخليجية التي تنتشر أعمالها في الكثير من الفضائيات العربية.

ويضيف: "كما أن معظم المسلسلات العراقية تكتب بلغة قريبة من الفصحى في تراكيبها واستخدامها للألفاظ، مراعاةً للمشاهد العربي، باستثناء المسلسلات الريفية". ويشير عطوان إلى أن أعمالاً عراقية كثيرة عرضت على الشاشات العربية في حقبة السبعينيات والثمانينيات، وكانت لها أصداء كبيرة كمسلسل "أعماق الرغبة" و"فتاة في العشرين". وحتى في التسعينيات، شكّلت الأعمال التلفزيونية العراقية حضوراً في المهرجانات العربية كمسلسل "عالم الست وهيبة" وغيره، رغم الحصار المفروض على البلاد آنذاك. لذا فإن الفشل لا يقع على عاتق الكتّاب أو المخرجين بقدر تعلقه بالسياسة، التي عطلت مسار العراق الحضاري ودفعته إلى الخلف، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي، حسب تعبيره.

ورغم غنى الواقع العراقي بالمواضيع الاجتماعية والقصص والأحداث التي تصلح لتكون أساساً لأعمال قوية ومؤثرة؛ إلا أن المؤسسات الفنية لم تنجح في تناولها وتقديمها بصورة مقنعة للمشاهد العادي. الناقدة الفنية حنان محمد ترى أن السبب الرئيسي وراء عدم انتشار الدراما العراقية عربياً هو أن معظم مواضيعها محلية وربما لا تثير اهتمام المشاهد العربي، كما أن قلة وضعف الدعم المادي قد أثّر سلباً عليها، إذ لا توجد جهات حكومية تدعم هذا الفن، بما في ذلك وزارة الثقافة التي يقتصر دعمها على أشخاص معينين ليسوا بذوي كفاءة، كما تشير حنان محمد التي تؤكد أيضاً أن الوضع الأمني العراقي جعل المنتج يبحث عمّا هو سهل وآمن لإنتاج العمل، بعيداً عن متطلبات الضرورة الفنية، أو مكان الحدث الحقيقي، وبالتالي فإن العمل لا يظهر بالمستوى المطلوب.

ورغم محلية الفن المرئي في العراق، إلا أن ذلك لم يقف عائقاً أمام فنانين تحدّوا هذا الواقع وفرضوا حضورهم عربياً في أعمال تلفزيونية وسينمائية كثيرة، من بينهم كنعان وصفي وجواد الشكرجي وبهجت الجبوري وناديا العراقية وغيرهم ممن شاركوا في أعمال عربية كبيرة، لكنهم لم يستطيعوا تقديم أنفسهم للمشاهد العربي من نافذة الفن العراقي.

وتبرز مشكلة انخفاض أجور الفنانين في مقدمة عوائق انتشار الدراما العراقية أو نجاحها عربياً، كما يرى الفنان فاضل خليل، إذ أن الأجور التي تصرف للممثلين العراقيين مخجلة ولا ترقى حتى للحديث عنها في وسائل الإعلام، كما يقول، فأعلى أجر لممثل نجم محترف لا يتعدى المائة دولار للحلقة الواحدة، وفي أحسن الأحوال يضاعف المبلغ المصروف للفنانين الرواد ليصبح مائتي دولار في مسلسلات رمضان، هذا عدا عن أن هناك ممثلين مهمشين يتقاضون أجوراً منخفضة قد تصل إلى عشرين أو خمسة وعشرين دولاراً.

ويؤكد خليل أن الإنتاج الذي يستهوي السوق يحتاج إلى إمكانيات مادية عالية جداً، وحرية في اختيار الموضوعات التي تهم هذا السوق، وهو ما يعتبر أحد أسباب تخلّف الإنتاج الفني العراقي وعدم استطاعته المنافسة على البيع في سوق التوزيع.

وفي السنوات الأخيرة، انتقلت عملية الإنتاج إلى الشركات الخاصة والقنوات الفضائية التي تحرص على إنتاج عدة أعمال سنوياً، لا سيما في شهر رمضان، لكن تطوراً ملموساً ذا شأن لم يطرأ على الأعمال المقدَّمة، كما يؤكد ناقدون.

وربما أصبحت هذه التساؤلات اليوم أكثر إلحاحاً، ولا تقتصر على الساحة الفنية العراقية، لا سيما وأن الشاشة العربية تواجه غزواً فنياً تركياً وأجنبياً، يعتمد تقنيات أكثر حداثة وجمالية في التصوير والإخراج، ويخاطب حاجات واهتمامات المشاهد العربي البسيط، ما يجعل الفن العربي أمام تحديات كبيرة، بعد ازدياد عدد متابعي الدراما الوافدة والمتأثرين بها، حتى أصبح ممثلوها نجوماً وأبطالاً شعبيين في بعض البلدان العربية، في حين بقيت السينما هي الملاذ الأخير للفنانين العرب.

فيما يؤكد نقاد فنيون أن السينما كذلك مهدَّدة في السنوات المقبلة، إن استمر الحال على ما هو عليه الآن، في خضم غياب أجيال من الفنانين الروّاد وسيادة النمط الاستهلاكي الخفيف، في انتظار صحوة فنية تنفذ إلى صميم المجتمع العربي وتكون مرآة صادقة له، حتى لو كان ذلك على حساب التوجهات السياسية الرسمية وسطوة رأس المال.

دلالات

المساهمون