العراقيون وكسر الصنم

العراقيون وكسر الصنم

24 يوليو 2018
+ الخط -
قد لا تؤدي التظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها مدن عراقية، منذ أكثر من أسبوعين، إلى تغيير واقع الحال في العراق البائس الذي يعاني من غياب كل شيء، ونقص في الخدمات لم يمرّ به البلد سابقاً، لكن بالتأكيد ستكون هذه التظاهرات والاحتجاجات بمثابة لبنة أخرى في بناء ثورة تعتمل في النفوس، وتكبر يوماً بعد آخر، ثورة لا بد لها أن تنفجر في وجه إدارة البلاد الفاسدة، وقتها لن تُبقي ولن تذَر.
وإذا كان هناك اختلاف بين تظاهرات العراقيين هذه الأيام عن التي كثيراً ما شهدنا مثلها في السنوات الماضية، فذلك يتجلى في الشعارات التي رفعها العراقيون هذه المرة، والتي كسرت قدسية أصنامٍ كثيرة صنعتها آلات الدعاية التي رافقت احتلال العراق قبل خمسة عشر عاما وما زالت، فلا المرجع الذي كان يعتبر بمثابة قدسٍ مقدسٍ لا ينبغي المساس به، ولا الحشد الشعبي الذي صوروه حاميا للمذهب، ولا شخصيات قيادية كان ينظر إليها شخصيات مبدئية وقيادية ودينية في الوقت نفسه، بل حتى إيران ومراجعها وقادتها، كل هؤلاء لم يسلموا من فم المتظاهرين العراقيين الذين كفروا بهم، فهم بنظرهم السبب في ما وصل إليه العراق من حالٍ متردٍ.
وربما كانت العلامة الثانية في مسيرة تكسير الأصنام التي بدأها العراقيون هذا العام هي مهاجمة مقرّات الأحزاب والمليشيات، والتي كانت هدفاً لغضب المتظاهرين واحتجاجهم، ولم يسلم من هذا الغضب مقرٌّ لحزب حاكم أو حزبٍ مشارك في السلطة أو مليشيا شيعية، كان ينظر إليها، ذات يوم، حامية للمذهب وأبنائه.
الأهم من ذلك كله أن هذه التظاهرات تجري في مدن جنوبية، كانت ذات يوم حطباً لحروب إيران في داخل العراق وسورية، والأهم أيضا أن كسر الأصنام كان على يد أناسٍ طالما قبلوها، وهاجموا من يهاجمها، معتقدين أن تلك الشخصيات والأحزاب لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها.
لم تعد الألاعيب التي مارستها السلطة الحاكمة في بغداد تُجدي لاحتواء غضب العراقيين، غضب أبناء الجنوب العراقي الذين طالما خدعتهم هذه السلطة بأنها منهم وإليهم، وأنها راعية لهم، وتعمل من أجلهم، ولكن بعد خمسة عشر عاماً، بدأ العراقيون في مدن الجنوب، المحرومة من كل شيء، يأخذون زمام المبادرة، ويعلنونها ثورة على كل هذه الرموز.
نعم ما يجري اليوم في جنوب العراق تحوُّل كبير وكبير جدا، فعندما خرج سكان المحافظات الست المنتفضة (السنية) في تظاهراتٍ مطلبية قبل خمسة أعوام، قامت الحكومة الطائفية باستغلالها، وهيأت الظروف من أجل أن يخرقها المسلحون التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فانتقمت منهم الحكومة أشد انتقام، وبطريقة طائفية يندى لها الجبين.
أما اليوم، فإن الغضبة الكبرى خرجت من مدن الجنوب. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت قيادات المنطقة الخضراء تكابر، وتتهم الذين يقودون تلك التظاهرات بأنهم من فلول حزب البعث أو من "داعش" أو مندسون، كما وصفهم أحد قادة حزب الدعوة (الحاكم).

اليوم، خرج العراقيون مطالبين بحقوقهم، فالبصرة التي قدحت زناد الغضب العراقي تمد العراق بأغلب موارده المالية، من خلال النفط الذي يجري في حقولها الغنية، بينما يعيش أبناء المدينة واقعاً مزرياً من الصعب وصفه، فلا كهرباء ولا ماء صالحا للشرب في طقسٍ صيفيٍّ قاسٍ، تبلغ فيه درجة الحرارة أكثر من 50 درجة مئوية، ناهيك عن غياب أي خدماتٍ أساسية، بينما تكبر أرصدة أعضاء مجلس المحافظة ونوابها وزعماء أحزابها ومليشياتها ومراجع الدين فيها.
تقدّر الميزانيات التي صرفت، منذ الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، بنحو ألف مليار دولار، وهو مبلغ كان يمكن أن ينعكس على حياة المواطن العراقي، صاحب أغنى أرض. ولكن كان لحيتان الفساد رأي آخر، فلقد أهدرت تلك الأموال، بسوء إدارتها وفسادها وجشعها، وحولت حياة العراقي إلى جحيم لا يطاق، في الصيف الحار أو الشتاء البارد، وغابت أي خطط للتنمية الاقتصادية والبشرية، ليقبع العراقي في سجن الحاجة، وهو ينظر إلى خيرات بلاده التي باتت نهباً للسرّاق واللصوص.
وحتى تكتمل أركان ثورة العراقيين، لا بد من كسر الأصنام أولاً، الأصنام التي تكاثرت، وباتت تعيق أي خطوة قد يتقدم بها الشعب، من أجل استرداد حقوقه. وحسناً فعل المتظاهرون في مدن الجنوب، عندما أعلنوها صريحةً أن مرجعية النجف، في إشارة إلى المرجع الشيعي علي السيستاني، تقف وراء فساد الحكومة والأحزاب، لأنها تدعمهم.
في المقابل، لم تكذب مرجعية النجف هذه الاتهامات الشعبية الصريحة، فكان أن غابت احتجاجات العراقيين عن خطبة المرجعية في الجمعة الماضية، ما زاد من حنق العراقيين على المرجعية التي طالما كانت فتواها سيفا مسلطا على رقاب قطاع كبير من أهل جنوب العراق.
لقد تنادى العالم من أجل احتواء تظاهرات العراقيين، فدول الجوار تخشى من فوضى عراقية جديدة على حدودها، والدول الكبرى لا تريد لانتصارها على "داعش" في العراق وسورية أن يكدّره انزلاق العراق إلى مجهول آخر، لذا جاءت العروض للعراق، من أجل إنقاذ حكومة المنطقة الخضراء والعملية السياسية من مصير أسود، لكن ذلك لن يطول.
اللبنة الجديدة التي وضعت فوق لبناتٍ سابقة ستقرّب؛ ولا بد، العراق من خلاصه، فلا يمكن لهذه الثلة الفاسدة الخانعة التابعة أن تبقى متسلطةً على رقاب العراقيين، لا بد أن تجد مصيرها الذي تستحق، ولا يمكن أن يكون ذلك بعيداً.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...