الصين وإسرائيل والعرب

الصين وإسرائيل والعرب

15 يونيو 2020
+ الخط -
لم تقدّم الحكومة الصينية رواية مختلفة عمّا أعلنته الشرطة الإسرائيلية الشهر الماضي من أسباب طبيعية، فسّرت وفاة السفير الصيني لدى تل أبيب، دو وي، ما منع تغذية الأقاويل عن ارتباط تلك الوفاة بغضب الولايات المتحدة من التقارب التجاري بين إسرائيل والصين أخيراً، وخصوصاً أن وفاة السفير أعقبت زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الدولة العبرية. لكن الحادثة أعادت التذكير بالتقارب، غير المعلنة تفاصيله عموماً، بين الدولتين، والذي بلغ حداً أغضب الولايات المتحدة التي يُفترض منطقياً أن إسرائيل معنية باستمرار رضاها ودعمها. فهل بلغ التعاون الصيني الإسرائيلي حداً يشي بتحالفٍ مضمر بينهما؟ وهل التحالف بين إسرائيل وقوة صاعدة كالصين ممكنٌ من حيث المبدأ؟
يمكن أن نبدأ بالقول إن علاقة الصين مع إسرائيل لم تأخذ طابعاً استراتيجياً في أيٍّ من المراحل السابقة، بل ظلت تقوم على تحقيق مصالح مباشرة وظرفية. وقد اعترفت إسرائيل رسمياً بجمهورية الصين الشعبية في 9 يناير/ كانون الثاني 1950، أي قبل اعتراف العرب بالجمهورية الصينية الناشئة (تأسست في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1949)، إلا أن الصين تردّدت في إقامة علاقات دبلوماسية معها وقتها، ثم حدث تحوّل كبير في السياسة الصينية تجاه المنطقة العربية منذ مؤتمر باندونغ في 1955، إذ باتت الصين منحازة إلى المواقف العربية، وخصوصاً في مسألة الصراع مع إسرائيل، ما انعكس تنافراً بين الطرفين. غير أن العلاقات بينهما أخذت بالتبدّل مع سياسة الانفتاح التي اتّبعتها الصين منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، لكن الاتصالات بين الطرفين تركّزت في الجانب العسكري، إذ يبدو 
أن الصين أرادت الاطلاع على التكنولوجيا العسكرية المتطوّرة التي يمتلكها الغرب، وتتوافر في إسرائيل بفعل علاقاتها العسكرية المتينة مع الولايات المتحدة الأميركية. ظلت تلك الاتصالات سرّية، بما في ذلك صفقات السلاح التي جرت ضمنها، ومنها شراء الصين تجهيزات عسكرية من إسرائيل في مطلع الثمانينيات بقيمة مليار دولار، شملت 54 طائرة حربية، ودبابات "ميركافا" إسرائيلية الصنع، وصواريخ، ثم صفقة أخرى في 1984 بقيمة ثلاثة مليارات دولار، شملت حصول الصين على مدافع حربية وتطوير إسرائيل تسعة آلاف دبابة صينية. ومع تدخل الولايات المتحدة التي راحت تحثّ إسرائيل على وقف تعاونها العسكري مع الصين، لما يمكن أن يمثله تزود الصين بالسلاح من خطر مستقبلي، فقد باتت الصفقات علنية، فاشترت الصين من إسرائيل في 1985 قطع غيار ومدافع أضيفت إلى الدبابات الصينية سوفييتية الصنع، وزوّدتها في المقابل بمعادن ضرورية للصناعات العسكرية الإسرائيلية. وخلال السنوات اللاحقة، تطورت العلاقات لتشمل بيع إسرائيل معدات أكثر تطوراً للصين، منها صاروخ مضاد للدبابات في 1986، وتكنولوجيا إنتاج صاروخ جو - جو، ومعلومات عن أجهزة توجيه الصواريخ الدفاعية الأميركية، فيما قامت مشاريع تعاون عسكرية لتطوير طائرات مقاتلة وأنظمة للسيطرة.
على الرغم من هذا كله، لم تبدأ العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الطرفين إلا في يناير/ كانون الثاني 1992، أي عقب بدء مفاوضات التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي انطلاقاً 
من مؤتمر مدريد في أكتوبر/ تشرين الأول 1991. وعلى هامش العلاقات العسكرية، نشأت علاقات اقتصادية وتجارية وثقافية وعلمية بين الطرفين، في الوقت الذي زادت فيه الولايات المتحدة من ضغوطها على إسرائيل عبر السنين لوقف إمداد الصين بالتكنولوجيا العسكرية، فنجحت في دفعها إلى إلغاء عقد كانت إسرائيل التزمت بموجبه تقديم طائرات حربية مزوّدة بأنظمة رادار متطور إلى الصين في عام 2000، ما كلّف إسرائيل دفع تعويض قيمته 350 مليون دولار. لم يتوقف التعاون العسكري بين إسرائيل والصين على الرغم من ذلك، فسعت الأخيرة إلى الحصول على طائرات هجومية من دون طيار من إسرائيل، فتدخلت الولايات المتحدة من جديد، بحجة أن تزايد القوة العسكرية الصينية يخلّ بتوازن القوى في شرقي آسيا، وشملت الضغوط، هذه المرة، قطع الاتصالات بين وزارتي الدفاع الإسرائيلية والأميركية، وهو ما انتهى بتوصل الولايات المتحدة وإسرائيل إلى اتفاق في عام 2005 يعوق الصادرات العسكرية الإسرائيلية إلى الصين، بدعوى "وقوف الولايات المتحدة وإسرائيل معاً في مواجهة التحديات الأمنية العالمية".
لكن العلاقات الدبلوماسية والعسكرية استمرّت خلال السنوات التالية، فشملت زيارات سياسية على أعلى المستويات بين الجانبين، منها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بكين في عام 2007، وزيارات عسكرية خصوصاً من قادة الجيش الصيني لتل أبيب، حتى إن سفناً من بحرية الجيش الصيني زارت ميناء حيفا في عام 2012 احتفالاً بالذكرى العشرين لإقامة 
العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وفي السنتين الأخيرتين، زاد حضور الشركات الصينية في عالم التجارة والأعمال داخل الدولة العبرية، وهو ما أثار حفيظة الولايات المتحدة أخيراً، لأن الاستثمارات الصينية دخلت مناطق حساسة، أشهرها إبرام مجموعة شنغهاي الدولية للموانئ اتفاقاً مع الحكومة الإسرائيلية في عام 2015 لإدارة ميناء حيفا 25 عاماً ابتداءً من عام 2021، كذلك التوجه في عام 2020 لإحالة عطاء بناء أكبر محطة تحلية مياه في المنطقة بالقرب من تل أبيب، على شركة هاتشيسون الصينية، قبل التراجع عن تلك الإحالة قبل أيام، بضغط أميركي.
وعلى هذا، فإن توثيق العلاقة الإسرائيلية مع الصين إلى حالة من التحالف الاستراتيجي، أمر تمنعه من جهة تدخلات الولايات المتحدة التي ترتبط إسرائيل معها بعلاقات تحالفٍ عميقة، ومن جهة ثانية طبيعة الأهداف الصينية من العلاقة بإسرائيل، لكونها تتصل بالحصول على التكنولوجيا مباشرةً وبمسائل التجارة والاستثمار من تلك التي تنشط الصين لأجلها مع كل الدول، كذلك تمنعه من جهة ثالثة طموحات الصين إلى إقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب، فذلك يتعارض بشكل صريح مع مصلحة إسرائيل في استمرار الأحادية الأميركية.
وإذا فكّر العرب في بناء علاقة استراتيجية مع الصين، من النوع الذي يكونون فيه معنيين بالحيلولة دون قيام تحالف بين الدولة العبرية وقوة عالمية جديدة صاعدة، لأنه تحالفٌ يتعارض بالضرورة ومصالحهم الاستراتيجية وقضاياهم الكبرى، فإن المقابل الذي يقدّمه العرب للصين بفعل النفط والقدرات الاستثمارية واستقدام البضائع الصينية لأسواقهم، يجعل المصلحة الصينية مع العرب أكبر بكثير منها مع إسرائيل، حتى من دون تدخل الولايات المتحدة بينهما، بشرط أن يُظهر العرب تناقضهم الحضاري مع إسرائيل، فيعملوا على كبح جماح محاولات إسرائيل لتمتين علاقتها بالصين، والارتباط بالمستقبل الصيني المُنتظر. لكن ذلك غير متحقق حتى الساعة في سلوك العرب السياسي وتطلعاتهم المستقبلية.

دلالات

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.