السّلط.. كرم الضيافة دون عين الماء

السّلط.. كرم الضيافة دون عين الماء

21 يونيو 2014
مشهد من السلط (تصوير: محتسب عارف)
+ الخط -
تُشدّ الرحالُ إلى المدن لأسباب مختلفة. لدفئها وحميميّتها، للشجر والحجر والبشر فيها. تُشدّ الرحال إلى الطبيعة الخلّابة، وعراقة التاريخ. إلى الجَمال... إلى السلط.. بموقعها وحضورها البارزَيْن في تاريخ الأردن، وفي سِجلّها مئات الشهداء الذين قاتلوا الإنجليز والصهاينة منذ عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين.

ننحدر إليها بعد خروجنا من عمّان، فتستقبلنا بجمال طبيعتها وعراقتها. ندخل أرض التين والعنب (الوادي المُشجّر)، كما يشير اسمُها اليونانيّ، إذ سُمّيت "سالتوس" نسبة إلى القائد اليوناني الذي فتحها زمن الاسكندر المقدوني، وتضمّ معابد عدّة أبرزها للإلهة زيوس، والكثير من المباني التراثية يبلغ عمرها مئات السنين. كما تشتهر بقلعتها الرومانية، وقبور عدد من الأنبياء، ما دعا البعض إلى الاعتقاد أنّها هي "مَدْيَن" الوارد ذكرُها في القرآن.. وتحيط بها سلسلة جبال أشهرها عيرا ويرقا.

مع الصديق الفنان محتسب عارف (فنان متعدّد، لكن سبع صنايع والبخت ضايع)، كانت الرحلة إلى السلط. فهو ابن المدينة منذ نكسة يونيو/حزيران 1967، جاءها مثل كثيرين من أبناء نابلس، المدينة الفلسطينية المقابلة للسلط، ويعرفها بالتفصيل، وكانت هذه الرحلة في يوم يجمع الصيف والربيع، ريح وشمس حارقة، ورعاة  يسوقون أغنامهم. وكانت لنا إطلالة على جبال فلسطين.

في السلط، أو "الصلت" (اسمها القديم)، نجد أنّ أقدم معالم المدينة يتركّز في كفر هودا (نسبة إلى النبي هود ربما)، حيث بقايا وآثار من البيوت الحجرية القديمة. كما تتميّز المدينة بكثرة الأدراج والكهوف فيها.

ظلّت المدينة، حتى أشهر قليلة، مدينة بلا فنادق، تنتشر فيها المضافات لاستقبال ضيوفها، وتقديم واجب الضيافة. فمن العيب أن ينزل الضيف في فندق، ومؤخّراً تم بناء الفندق الأول في المدينة "فندق سالتوس"، دلالة على التحولات الاجتماعية والاقتصادية ربما.

كانت السلط مقرّ الأمير عبد الله بن الحسين، مؤسس إمارة شرق الأردن، حيث أقام في بيت لآل أبو جابر في سبتمبر/أيلول 1922. ويُروى أنّ غيرة أهل السلط لم تتقبّل وجود الجنود الدائم قبالة عين الماء التي تملأ منها الصبايا جِرارَهنّ. فتفهّم الأمير تلك المسألة، وقرّر إعلان عمّان عاصمة جديدة، وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1922 ودّعت السلط أميرها زاهدة في امتيازات "العاصمة".

هذه المدينة ينتمي إليها رئيس الوزراء الأردني الحالي عبد الله النسور، ويمتلك فيها بيتاً محروساً بعسكريّ واحد (فالنسور لا يسكنه)، جرت مهاجمته مرّات عدّة، لأسباب تتعلق بسياساته. وهي تحتضن أبرز معالم الأردن على صعيد التعليم، فضلا عن أنّ أبرز قيادات المملكة من رؤساء الوزارات والوزراء ورؤساء الجامعات تخرّجوا منها.

أيضاً تضمّ السلط أقدم مدرسة في الأردن، التي جرى تأسيسها بين عامي 1918 و1919، بجهود شعبية. وموادّ بنائها جُلبت من حيفا. فقضبان الحديد والجسور والاسمنت والستائر والبلاط والمسامير والأخشاب جاءت عبر مرفأ حيفا، ثم نُقلت على شاحنات الجيش البريطاني عندما كانت الأردن وفلسطين تحت الانتداب.. بينما تمّ نقل الحجر الأصفر المتميّز على ظهور الدّوابّ من جبال البلقاء، ليشكل مادّة البناء الأساسية. واتّخذ البناء طابع القلعة، له بوّابتان كبيرتان تعلو كلّا منهما منصّة مرفوعة على أعمدة حجرية، وفي الداخل يُغلق المبنى على باحة واسعة مبلّطة ببلاط متعدّد الألوان، وتزيّنه النقوش والزخارف.

تميّز تاريخ المدرسة بمرور مديرين ومدرّسين من الأردن وفلسطين وسورية ولبنان، ومن ساحاتها خرجت أولى تظاهرات حركات التحرّر القومي التي واكبت صيرورة الدولة الأردنية الحديثة، وسط منعطفات تاريخية شديدة الوعورة. وفضلا عن اسمها الشهير "أمّ المدارس"، حملت تسميات عدة مثل: المدرسة الرشدية، التجهيزية، التلّ، السلط الأميرية، وأخيراً مدرسة السلط الثانوية.

في هذه المدينة فقط، من بين المدن الأردنية كلّها تقريباً، تستطيع أن تشاهد طابعاً معمارياً متميّزاً يوحّد أجزاء كبيرة من المدينة. وسواء تعلّق الأمر بالبيوت، أو بالمساجد والكنائس والأسواق، فإنّ ثمّة طرازاً معماريّاً ذا جماليات خاصّة، ولوناً يميل إلى الاصفرار. لكنّ هذا الطراز المعماريّ آخذ في التراجع، بدخول الطابع الحديث الذي يفتقر إلى هويّة محددة. بل إنّ المدينة تشهد هدم الكثير من ملامحها القديمة التي ميّزتها على مدى الزمن.

ولشوارع المدينة القديمة، المرصوفة بالبلاط الأسود، طابعها المميّز أيضاً، ففي هذه الشوارع والحارات الضيّقة تشمّ رائحة التاريخ، وتشعر بحضوره العميق، وتلمس بصمة اليد التي صنعت وعمّرت وتركت هذا الموروث. لكن ما يشوّه هذا المشهد الجميل هو السّماح بمرور السيّارات وسطه. الأمر الذي يحيله إلى مشهد فوضويّ منفّر. فمثل هذه الشوارع يفترض أن تُخصّص للمشاة والسيّاح. لكنّ الغريب أنّنا لم نشهد ذلك الحضور السياحيّ الذي نشهده في المدن القديمة!

إلى هذا الطابع، يمكن التوقف مطوّلاً أمام الخضرة والينابيع التي تمتاز بها المدينة. خضرة حقيقية وعميقة حيثما انتقلت، في جبالها وسهولها ووديانها، رغم انتشار مساحات من الصحراء ذات الرمال الذهبية. والطريف هنا، إضافة إلى وجود المرافق الرياضية والسياحية، هو وجود ساحات عامة مخصّصة لإقامة مسابقات ومباريات للألعاب الشعبية المتوارثة (السيجة، المنقلة مثلا). فلا تكاد ساحة تخلو من مشاهد الألعاب هذه، وبحضور لافت للمشجّعين.

تحتضن المدينة جامعَين قديمين، الجامع الكبير الذي أقيم على أنقاض الجامع المملوكي ومدرسته السيفية التي أنشأها المير سيف الدين بكتمر الحسامي سنة 724 هجرية 1333 ميلادية، وتمّت إعادة بناء الجامع المملوكي بعد العام 1816. والجامع الصغير، أقدم مساجد السلط التي بقيت قائمة حتى الآن، تأسّس في السابع من أبريل/نيسان من العام 1906، حجارته الصفراء جيء بها من محاجر السلط، وحجارة أعمدته من محاجر وادي شعيب، بينما تمّ جلب خشب الطوبار اللازم لبناء عقود التسوية من القدس. وبلغت كلفة البناء 342212 قرشاً.

من أبرز كتاب السلط الكاتب والشاعر الراحل حسني فريز، والشاعر خالد الساكت، وغيرهما. ورغم ذلك لا نجد الكثير من الكتابات عنها في نتاج أبنائها. أما أكثر مَن كتب فيها وعنها، شعراً، فهو الشاعر الدمشقي سليمان الصولة (1229 - 1317 هـ / 1814 - 1899 م). فقد ذكرها في قصائد كثيرة، وكتب مادحاً الوالي العثماني محمد راشد، الذي قام بحملة على البلقاء عام 1869، حين كانت السلط مركزَ قضاء يمتدّ من جنوب الزرقاء إلى جبل عجلون، وكان تابعاً لمتصرفية البلقاء، التي كان مركزها في نابلس، ويتولاها محمد سعيد أغاشمدين الكردي.

يقول سليمان الصولة في إحدى قصائده:

يا فاتحَ السلط كم من جنَّةٍ فَتَحَتْ ** أبوابَهـــــا يدُكَ البيضـــاءُ للبَشَـــــــر

وطاف حولكَ فيها كلُّ ذي أمــل ** كما يطـــــــافُ بذاتِ الرُّكْنِ والحَجَرِ

المساهمون