الديكتاتورية وإعادة تشكيل عقول الجماهير

الديكتاتورية وإعادة تشكيل عقول الجماهير

13 سبتمبر 2018
+ الخط -
لقد كان الربيع العربي بحق ربيع الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط، ذلك المارد القوي الذي خرج من قمقمه فجأة قلب موازين وحسابات جميع الأنظمة العربية، بل قلب عروشا وكراسيّ ظلت راسخة أمام رياح التغيير لسنوات طويلة.

لقد ظنت تلك الأنظمة، ومعها حلفاؤها الغربيون، بالجماهير ظن السوء، واطمأنت على الأقل لغيابها أو غيبوبتها أو أُفول نجمها، وطول سباتها؛ حتى استيقظ النائم، وتنبه الغافل، وتشجع الجبان، وصرخ الصامت، ثم كانت الأمواج هادرة قوية تندفع تكنسهم من أمامها، وتسقطهم من عليائهم.

ولما كانت الأيام دولا، وللحركات مد وجزر، والصراع بين الحق والباطل أزليا، وللكون سنن لا تحابي أحدا؛ انقلبت الأمور بانقلابات العسكر في مصر وسورية واليمن وليبيا فدانت لهم البلاد، وأخضعوا لهم العباد.

فانتبهوا إلى قوة الجماهير وخطورة أمواجها ووحدة صفها، واحتمال عودتها، فعملوا بكل قوتهم وقوة غيرهم ممن ساندهم على قتلها، أو تغييبها بغياب عقولها، وتجفيف محيطها، ووضع الخطط لإلهائها بلقمة العيش (الخبز) وسلامة العيش (الحياة) تارة، وبالخوف والرعب عن طريق القتل والسجن والفصل والملاحقة تارة أخرى! ثم بتسليط الإعلام الموجه على مدار الساعة، والمخطط له بعناية وانتقائية وبإدارة مباشرة من الاستخبارات لإعادة تشكيل العقلية الجمعية للجماهير، لتصب في النهاية في بحرهم المالح، وتسير معهم وفق ما يشاؤون، وليفعلوا ما يؤمرون.


إن اللعب بعقول الجماهير عبر الإعلام والتعليم، وإلقاء دعاة الديكتاتورية في روع الجماهير أن هذه الأنظمة مبعوثة قدر ومندوبة عناية إلهية، وأنهم أعلم بما يندر علمه على الشعب، وأصلح لهم، ومن ثم تغيير عقائد وقيم المجتمع وعاداته الصالحة، واستبدالها بمفاهيم وأوهام لا حقيقة لها ولا معنى ولا قيمة، وخلق أسطورة لها سحرها الخلاب وتأثيرها الخادع، تُعد هذه الجهود الجبارة من أخطر ما تقوم به الديكتاتوريات على الإطلاق.

وبيان ذلك عند الأستاذ علي أدهم: "أن كل نظام صارم سواء كان سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً يُفرض على الناس فرضاً ويأخذون به أخذاً يُنزل العقل من عليائه، ويستتبع ذلك خضوع الفرد خضوعاً تاماً مزرياً، ويتخاذل تفكيره، ورقدة ضميره وانحلال شخصيته. وإذا طال الحال على ذلك أصبح الميل إلى التفكير رذيلة من الرذائل ونقيصة يُحاسب عليها الفرد، وتنزل به من أجلها العقوبة الرادعة، ويسوء تفكير الجماعات التي استطارتها العاطفة وأفسد عقولها التعصب والضيق، وهذا اللون من تفكير الجماعات من أخطر مظاهر الديكتاتورية وأبعثها على النفور والتقزز.. ويستلزم ذلك ظهور محطمي الأصنام والثائرين على الأوثان.. وجميع المربين الأحرار يُسلمون بأن أول غاية يجب أن يتجه إليها التعليم هي تشجيع استقلال التفكير وحرية الرأي وإنماء القدرة على تكوين الأفكار الصحيحة والآراء الصائبة البصيرة عن مؤثرات الدعاية وبواعث الإغراء، وهذا نقيض المتبع في الدول الديكتاتورية لأن الطفل معتبر هناك عجينة تُشكل بحسب ما يتراءى لولاة الأمور، وهو ينشأ على المثال المطلوب ليكون شخصاً صناعياً وآلة طيعة تُلبي الأوامر وتخضع لإرادة الغير، وتدين بعبادة الأصنام الحديثة، ويمكن بذلك أن يُحشر في زمرة العبيد، ويشغل موقعه من القطيع. وتعمل الدعاية من ناحية، وفرط الخضوع للأوامر من ناحية أخرى، على سحق كل امتياز فردي، والقضاء على كل نزعة للثورة على هذه القيود المضروبة والأصفاد الموهنة، وتقضي على الملكات الفنية، وتعرقل الذكاء وإنماء الشخصية.. وصاحب العقل الخاضع والنفس الذليلة لا يتوق إلى الحق ولا يحرص على الاستقلال ولا يرغب في الحرية". مجلة الثقافة، العدد110 فبراير/ شباط 1941.

إن الاستيلاء على عقول الجماهير والعبث بها أخطر من الاستيلاء على السياسة والاقتصاد وغيرهما والعبث بهما، لأن دولة الباطل ساعة بالقياس إلى عمر الزمان والشعوب والأوطان، وحين يرحل الطغاة تكون الشعوب قادرة على استعادة ما ضاع وتعويض ما نُهب مع الصبر والوقت قصر أم طال. ولكن إذا تغيرت عقول الجماهير وتم العبث بها وتشكلت على طريقة الديكتاتورية الفاسدة فقل على الدنيا السلام!

يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد": "ولهذا كان الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلاً عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تُغالب من يريد حجزها عن الهلاك.. لقد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس الاستبداد في تسمية النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتواً، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة".

"فالنظام الذي يعتبر الرجال أطفالاً قاصرين تحت الوصاية، ولا يُقيم وزناً لعقولهم وأفكارهم، بل ولا لآدميتهم وكرامتهم الإنسانية، ولا يرضى منهم بأقل من الخضوع التام والاستسلام الخالص ويهدم بناء شخصيتهم ويسلبهم استقلالهم، لا بد أن يكون نظاماً فاسداً ومسرفاً في الفساد مهما افتن دعاته في الإشادة به بمنطقهم المتهالك، وحُججهم المردودة وثرثرتهم الوضيعة المرذولة". كما يقول علي أدهم.

وأحسب أننا قد نكون أقرب إلى الصواب لو قلنا إنّ الشعوب قد تنام قليلاً أو كثيراً، لكنها لا تموت، ولا تغيب غيبة أبدية، وإنما لها انتفاضات وحركات ونهضات ووقفات وصرخات وثورات، قد تكون صامتة خلف نوافذ الفضاء الافتراضي، أو متحركة أحادية أو جماعية، قليلة العدد أو كثيرة، خافتة أو هادرة، ولكنها في الأخير تثبت بما لا يدع مجالاً للشك حيويتها وجاهزيتها وإن لم نسمع لها همساً!

يقول الأستاذ علي أدهم: "وعمل المربين والكتاب والقادة والزعماء والسياسيين هو أن يشجعوا ظهور العقل المستقل ويُجنبوا بلادهم خطر عقلية الجماهير، وهذا واجب من ألزم الواجبات، وعمل من أقدس الأعمال في هذه الأيام الحالكة التي تشظت فيها الدعايات المختلفة، وكثر الإرجاف بالأباطيل وزائف الآراء، وخلق عقلية الجماعات في الأمم الديكتاتورية هو الذي مكن القادة من التغرير بها وتوريطها في المآزق الضنكة دون أن يستطيع أحد أن يشُد طرفه إليهم ويناقشهم الحساب على أخطائهم وجرائمهم".
F9564B83-FF50-486A-9BC1-A882E1477F2C
وليد شوشة

كاتب مصري مهتم بالفكر والسياسة ورفع الوعي وإعادة تشكيل العقل العربي ليتناسب مع المعطيات الجديدة.يقول: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكبيرالكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة.