الدبلوماسية السودانية في مهبّ الصراعات

الدبلوماسية السودانية في مهبّ الصراعات

27 ابريل 2018

إبراهيم غندور.. استقالة بعد عدة أدوار (5/4/2018/فرانس برس)

+ الخط -
أضحى سجلّ الدبلوماسية السودانية حافلاً بجوانب سلبية عديدة منذ الانقلاب العسكري عام 1989، ونجحت الحكومة في تصويرها بظلال أشد قتامة وكآبة، خصوصا وأنّها في ظل هذه الحكومة التي امتدت إلى نحو ثلاثة عقود، شهدت تحولاً هائلاً وشاقاً من وزارةٍ يلفها الوقار والخبرة والكفاءة إلى تكيّة للمحسوبية والترضيات السياسية.
لم يكن واضحاً مغزى القرارات الجمهورية التي يتخذها البشير بخصوص هذه الوزارة بين الفينة والأخرى، وتجاوزها، في أحيان كثيرة، ولكن اتضح الأمر بشكلٍ جليّ، عندما تمت إقالة وزير الخارجية، إبراهيم غندور. الواضح أنّ البشير لا يريد بروفيسوراً ونقابياً مثله ينافح من أجل حقوق منسوبي وزارته، وإنّما يريده قروياً بسيطاً، بل أقلّ مما جاء به السفير عمر بريدو في كتابه "قروي في بلاط الدبلوماسية". وإن كان تعبير بريدو الطريف هو استعراض لتجربته في العمل في وزارة الخارجية في عهدها الزاهي، والتنقل في محطات العمل في سفارات السودان في الخارج.
لم يكن غندور وزيراً لخارجية السودان فحسب، وإنّما اتخذ من الألقاب الدبلوماسية ما يتناسب مع ما أنجزه خلال ثلاث سنوات، قبل إقالته بقرار جمهوري أخيرا، عقب تصريحات في 
البرلمان السوداني بعجز الحكومة عن سداد المرتبات والاستحقاقات المالية لمنسوبي وزارته في السفارات والبعثات الدبلوماسية الخارجية مدة زادت عن سبعة أشهر. وكان قد استبق هذه الإقالة باستقالةٍ رفضها الرئيس البشير. وكانت الأعوام التي قضاها في خدمة الدبلوماسية السودانية من ضمن فترة اتسمت بعضويتها المجمّدة في أغلب الكيانات الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة، وكانت من أشدّ السنوات التي مرّت على تاريخ السودان الحديث، وأعقدها. فقد ظلّ موقف السودان ضعيفاً بين الدول وخاملاً إزاء هذه التفاعلات في منظمات الأمم المتحدة، وغيرها من الكيانات ذات الأثر. ولم يكن بيد السودان من أمر غير الرضوخ لأغلب القرارات الدولية، ولم يكن من سبيل للاعتراض على ما يراه غير مناسب. وبذلك عاش السودان مستضعفا وسط اضطراب إقليمي وعالمي. أما ما ميّز فترته فهو نزوعه نحو الحياد إزاء الاضطرابات في منطقة الخليج العربي، ومجهوده في تلطيف الأجواء بين السودان ودول الجوار التي نشبت بينه وبينها خلافات ونزاعات حدودية واصطفافات سياسية.
الشخصية السياسية في الأجهزة التنفيذية السودانية نتاج طبيعي للظروف والحراك العقائدي في الإقليم. وكانت فيما قبل نتاجاً للأيديولوجيا التي تشبه، إلى حدّ بعيد، تلك التي ورثها القادة السوفييت عن حركةٍ يرجعون إليها بأصولهم السياسية، وذلك في وصف الدبلوماسي الأميركي، جورج كينان، سلطة الاتحاد السوفييتي قبل روسيا الحالية. وقد نجم هذا القدر من العلل في الشخصيات السياسية عن مبلغ شعور الجهاز التنفيذي بالانشداد إلى اتجاهات مما يمكن وصفها الطبيعة المتقلبة والذاتية لرد الفعل العام حيال قضايا السياسة الخارجية.
من سمات أداء وزارة الخارجية السودانية أنّه ضعيف بشكلٍ ملحوظ عند متابعين كثيرين، ولذلك أسبابه، ابتداءً من التآمر على هذه الوزارة المهمة بتطبيق سياسة التمكين، وفصل الكفاءات وأهل الخبرات، واستبدالهم بأهل الطاعة والولاء، لينتهي بقبرها وحثو التراب ثلاثاً من فوقها. وإذا كان الحال كذلك، فكيف ببعثها من مرقدها، ومتى يتم الخروج بها من حالة التردي والضيق إلى سعة الأفق وسلاسة الأداء، خصوصا وأنّ هذا الضعف البائن انسحب على دور الوزارة الحيوي، مثل عدم حسم الملفات الكثيرة التي تتعلق بمهامها. وأصبحت التصريحات التي تصدر عن الدبلوماسية السودانية، والتي كان يميزها فيما قبل ارتقاء خطابها ومتانة لغة ممثليها، أقل من مستوى الطموح.
وتأتي أهمية الفترة التي شغلها غندور في وزارة الخارجية أنّه تم فيها رفع عقوبات أميركية 
كانت مفروضة على السودان، وتم فيها تطبيع العلاقات مع أميركا، وكثيراً ما يتم اعتبار غندور ابن أميركا البار، وذلك ما سبّب قلقاً شخصياً للرئيس البشير الذي اتخذ خطوة عيّن فيها مدير المخابرات والأمن الوطني السابق، محمد عطا، قائماً بالأعمال ورئيس البعثة الدبلوماسية في واشنطن. وقد تغير، في سنوات غندور القليلة، مفهوم العلاقات الدولية، من علاقات بين الدول فقط إلى علاقات بين السودان وكيانات المجتمع الدولي. وأصبح لهذه الكيانات تأثير فاعل، ودخلت كيانات أخرى، مثل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، لذا أصبح التفاعل بين هذه الوحدات على نطاق أوسع من التفاعل بين الدول، وأصبح لها تأثير أكبر بكثير من تأثير الدول على بعضها بعضا.
لذلك كله، لم يكن ما كان يقوم به غندور دوراً لوزير خارجية فحسب، وإنّما مجموعة أدوار استوجبتها الأحداث والتغيرات الدولية والإقليمية وأثرها على السودان. وهو وإن لم يُكتب النجاح بشكل كبير لفترته تلك، فإنّ المحاولات التي قام بها في ظلّ ظروف السودان الحالية الاقتصادية والسياسية تُعتبر إنجازاً، ولكن أكثر منه مؤشّراً بخطورة مثل هذه المحاولات مع بعض الأطراف الدولية.
وما كشفه غندور من أزمة اقتصادية لا يُعدُّ سرّاً، أو مهدّداً للأمن القومي، أو اعترافاً منفّراً للمستثمرين الأجانب الذين لا تخطئ أعينهم النظر إلى حال السودان، وأخباره المبذولة. خوف الرئاسة هنا ليس من غندور في ذاته، وإنّما فيما يمثّله هذا المنصب إن استمر شاغله بهذه الفاعلية والجرأة.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.