الخروج من مدينة الموتى

03 فبراير 2015

عمل لـِ(سلاسيف أركونسيك)

+ الخط -

اجتمع موتى المقبرة حول الميت طريد الذي كان يحتضر في قبره، وملامح الأسى تغمر وجوههم، بقرب فقدان زميل لهم، سيرحل عن آخرتهم التي أحبوها. كان الأمر صادماً لهم، إذ إنها المرة الأولى التي يقرر فيها أحدهم الإقدام على هذه الفعلة الغريبة، أن يترك قبراً دافئاً، ويرحل إلى صقيع دنيا ضنّت بالغطاء والكساء والدواء. والحال أن أساهم على رحيل زميلهم طريد لم يكن نابعاً من فجيعة الفقدان وحده، بل كان يملؤهم العجب من هذا المتمرد الذي رفض رغد الموت، وآثر أن يعود إلى جحيم الحياة العربية، بكل لهيبها، بحجة أن "لديه مهمة لم يتمّها في العالم الأول".

كانت حجة "طريد" أن من لا يحصل على الحرية في حياته لن يحصل عليها في موته، وأنه لم يجد فرقاً بين "موتين": موت في الحياة العربية، وموت في الموت، فالأولى، إذن، أن يحاول الحصول على فرصة الحياة في الحياة العربية نفسها، بدل القبول بموت لا حياة فيه. أما حجج زملائه الموتى فكانت أن على طريد أن يتمتع، الآن، بموت لا ألم فيه، ولا استبداد، ولا سجود لاثنين وعشرين "إلهاً"، ولا عناء في البحث عن أبسط متطلبات الحياة.

والأهم، وفق ذرائعهم، أن الموت حقق لهم وحدة عربية، ما كانوا يحلمون بها في حياتهم، بعد أن أصبحت المقبرة واحدة لجميع الجنسيات العربية، والإله واحد.

ابتسم طريد للمرة الأخيرة في موته، وغمغم في ما يشبه الوصية: " أيها السادة الميتون، كفوا عمن محاولة ترهيبي، فهذا الخوف من الحياة الذي تتحدثون عنه هو ما يدفعني، تحديداً، إلى العودة إليها، أريد القضاء على هذا الخوف، لا أريد الخروج من الحياة طريداً، أريد موتاً مبجلاً، يكون خاتمة منطقية لحياة مبجلة، أريد أن أموت حراً، فهل أطلب المستحيل؟ ثم إني خرجت من حياة الطغاة طريداً. لم أخرج بملْ إرادتي، هم أرادوني ميتاً، قمة المواطنة، في عرفهم، أن يكون المواطن ميتاً، يتمنون أن تصدر شهادات الموت قبل شهادات الميلاد، وأكثر مشاريعهم التي يعملون عليها إنشاء المقابر وتوسعتها. الوطن كله مقبرة في نظرهم، والشعوب كائنات متمردة على الموت، أنتم خضعتم لهذه الإرادة بطمأنينتكم المفرطة، اخترتم الحل الأسهل، ارتديتم أكفانكم وخرجتم، ولم تدققوا النظر جيداً في حمأة بحثكم عن الخلاص، لتدركوا أن هذه الأكفان والقبور رافقتكم طوال حياتكم. وفي النهاية، لم يكن صعباً عليكم أن تموتوا، لأنكم متّم قبل ذلك، أما أنا فأرفض هذا "الخلاص"، أرفض أن أترك للطغاة حقي في الحياة، فلي مساحة فوق الأرض سأقاتل من أجلها، وحفنة هواء لن أسمح لأحد أن يسطو عليها. صحيح أنني سأجد اثنين وعشرين صنماً بانتظاري على باب القبر، وسيحاول كل منهم إخضاعي لمعبده، لكنني، هذه المرة، لن أقبل شروطهم، وإذا اضطرني الأمر، سأحمل فأسي، على غفلة من الكهنة والشعوب المغيبة، وسأحطم أصنام المعبد، واحداً تلو الآخر، دعوني الآن فقد آن أوان خروجي من مدينتكم، مدينة الموتى".

فتح طريد عينيه مستقبلاً أمواج الحياة، وسط ذهول زملائه الموتى الذين رأوه يتلاشى من أمام أعينهم رويداً رويداً، وشعروا، لوهلة، بأن شيئاً ما رحل مع طريد، شيئاً أشبه بالطمأنينة الخادعة التي كانوا يعيشونها في قبورهم.

وبعد مداولات عديدة، قرر سكان مدينة الموتى إعلان الحداد الأبدي على رحيل طريد، كما قرروا نشر نعي له في صحيفتهم على النحو الآتي: بمزيد من الفرح والكبرياء، نزف إليكم نبأ استشهاد زميلنا طريد الذي غيبته الحياة عن عمر يناهز عمرنا مجتمعاً. تقبل التهاني في قبره الفارغ، اعتباراً من اليوم، وحتى تحقيق آماله بالحرية والحياة الكريمة، ووقاه الله جحيم الأنظمة العربية.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.