الثورة المصرية وآلة الزمن

الثورة المصرية وآلة الزمن

18 فبراير 2016
+ الخط -
إذا كان من الممكن استنساخ أيام الثورة المصرية وأحداثها من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، مروراً بأيام جمعة الغضب 28 يناير وموقعة الجمل 2 فبراير، وحتى إعلان حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وتسليم السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فما الذي يمنع من استنساخ أيام 30 يونيو و3 يوليو 2013، عندما أعلن رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى بيان قاطع، استعادة السلطة من الرئيس المنتخب، وفرض خريطة طريق للمستقبل، تتضمن إلغاء كل ما جرى اعتباراً من 12 فبراير 2011 وحتى 30 يونيو 2013، وفى المقدمة الدستور الذي تم الاستفتاء عليه، ومجلس الشورى الذي كان قائماً، وبطبيعة الحال الرئيس المنتخب، وإعادة صياغة الدستور، وانتخاب الرئيس، والبرلمان. وذلك كله تحت إشراف وبرعاية كاملة وانضباط صارم، من القوات المسلحة، وهو ما تحقق بالفعل عبر عامين ونصف العام.
ما حدث لقي قبولاً وترحيبا من بعضهم، ولقى استسلاماً قدرياً من بعضهم، وأيضاً لقي رفضاً ومقاومة من آخرين، وتعدّدت في كل مجموعة المواقف والدوافع والتوجهات، فهناك من رحب وهلّل، ليس حباً في عمرو، ولكن، كرهاً في زيد، وهناك من استسلم راضياً، كرهاً في الإضطرابات والقلاقل وطلبا للاستقرار، وهناك من رفض، قناعةً بأن حقه في السلطة والحكم قد سُلب منه، وهناك من رفض وقاوم، لأنه وجد في ما حدث نكوصاً عن الثورة وأهدافها التقدمية والطموحة. وهذا يعني أن الاستقطاب في مصر ليس ثنائياً، ولكنه استقطاب متعدد التوجهات. منه ما يتعلق بالصبغة العسكرية المحببة من بعضهم، ومنه ما يحمل الطابع الإسلامي بمشروعه القيمي وطموحاته الأممية، ومنه ما ينحاز للتوجهات الثورية، والليبرالية، في طموحاتها نحو الحرية والديموقراطية والحداثة. ومِمَّا يزيد من تعقيد الموقف، في حالتنا المصرية، أن كل مجموعة تعتقد، إلى حد اليقين، أنها هي من يمتلك الحقيقة، وأن ما تراه هو الصواب المطلق، والأخطر الاعتقاد بأن الآخرين عملاء، أو خونة، أو إرهابيون وتكفيريون، وفي أحسن الأحوال، مخربون وفوضويون.
قد يكون ذلك مفهوماً، وقد يكون من الممكن التعامل معه سعياً إلى معالجته. ولكن، تبقى المشكلة الأهم والأخطر، وهي أن الجميع يبدو وكأنهم قد توحدوا مع 18 يوماً من 25 يناير وحتى 11 فبراير، من عام 2011، ولكل منهم تفسيره الخاص لتلك الأيام الثمانية عشرة، وما تلاها من أحداث، وما كان يجب أن يحدث. وتكمن الخطورة في أن ذلك التوحد مع الماضي أحدث حالة من العجز شبه الكامل، في التطلع إلى المستقبل، انطلاقاً من الواقع الذي وصلنا إليه، والذي لا يرضى عنه أي من الأطياف التي تشكلت منها قوى المجتمع.
لا أحد يمتلك آلة الزمن الخرافية، ليعود بها خمس سنوات إلى الوراء، ويتوقف عند 11 فبراير
2011، ثم يعيد صياغة الأحداث بشكل مختلف عما جرت به، ويلبي ما كان يصبو إليه الثوار من تغييرٍ، ينتقل بمصر إلى القرن الواحد والعشرين الذي تعيشه البشرية، بدلاً من أواخر القرن التاسع عشر الذي ما زلنا نعيش فيه للأسف الشديد، بل وندير أمورنا بشكل أقلّ كفاءة مما كانت تُدار به في ذلك الوقت، وليس أدل على ذلك من التصريح الرسمي الصادر عن الحكومة أن مصر، وفي القرن الواحد والعشرين، ستستعين بشركة أجنبية لإدارة مرفق السكك الحديدية، بعد أن فشلت في إدارته، وهو المرفق الذي أنشأته مصر في القرن التاسع عشر، وكانت تديره بكفاءة في ذلك الوقت، حيث كانت ثاني دولة في العالم تقيم خطوط السكك الحديدية في عام 1835، بعد بريطانيا مباشرة.
ولأن لا أحد يمتلك آلة الزمن، ولأن الزمن لا يعود إلى الوراء لإتاحة الفرصة لتصويب الأخطاء، ولأن الحاضر لا يرضى عنه أحد، فإن الحلم الثوري الذي استيقظ عليه المصريون في 25 يناير 2011، للخروج من عباءة تخلف وقهر نُظم شمولية متوارثة من القرن التاسع عشر والعشرين، سيبقى معلقاً بلحظةٍ تاريخيةٍ في 11 فبراير 2011، عندما تخلى مبارك، وهو رأس النظام، عن منصبه رئيساً للجمهورية، وسلم السلطة للقوات المسلحة، ممثلة في مجلسها الأعلى، لكن اللحظة أفلتت من يد الثوار والذين، وللأسف الشديد، تفرقت بهم السبل. والتقط اللحظة، بدلاً منهم، سدنة النظام المتصدع، ليقوموا بترميمه، وإعادة تسويقه بثوب جديد. ولكن، مع الحفاظ على جوهر النظام الشمولي السلطوي المنتمي إلى قرون ولّتْ. وجاءت "30 يونيو 2013"، وكأنها اعتذار عن 25 يناير 2011، و3 يوليو 2013 وكأنها تصويب لما جرى في 11 فبراير 2011.
ذلك هو المأزق الذي يمر به حلم الثورة المصرية، الثورة الحقيقية التي تعيد صياغة عقد اجتماعي، بحيث تكون السيادة للشعب بحق، ويكون هو مصدر كل السلطات فعلاً، وليس مجرد نص أجوف في وثيقة فضفاضة، لا يعمل بها أحد، يطلق عليها مجازاً اسم "دستور". الثورة التي تحطم الحواجز السميكة التي تُعيق الانتقال إلى القرن الواحد والعشرين، بكل معطياته الحضارية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، القرن الواحد والعشرين بكل ما يعنيه من ثورات معرفية، ومعلوماتية، وحريات وحقوق الإنسان. الثورة الشاملة التي لا تستبدل شخصاً بشخص، ولا جماعة حاكمة بجماعة أخرى، وأيضاً لا تهدم الدولة، وتدمر مؤسساتها كما يدّعى سدنة النظم السلطوية والشمولية القهرية، لكنها ثورة تطور مؤسسات الدولة، وتعيد هيكلتها لتناسب، بحق، الدولة الوطنية، المدنية، الديمقراطية، الحديثة، بالمعنى الحضاري للحداثة.
تلك هي اللحظة الفارقة التي يمر بها الشعب المصري بكل تنويعاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والذي عليه، بحسه، ووعيه، الحضاري أن يتجاوزها، ليس بالإصرار على النظر إلى الخلف، ومحاولة تشغيل آلة الزمن الخرافية، سواء كان الهدف العودة إلى ما قبل 25 يناير، كما يسعى سدنة النظام، أو كان الهدف العودة إلى لحظة 11 فبراير 2011، كما يأمل الثوار. ولكن، بالنظر إلى الأمام، والإصرار على الانطلاق نحو المستقبل، لأن التغيير، بمعناه الثوري، بعد 25 يناير 2011، أصبح حتمية تاريخية، مهما كانت القوى التي تسعى، جاهدةً، إلى عرقلته. وأيضاً، على الرغم من كل التحديات التي يمكن أن تواجهه. ولنا في هذا حديث آخر.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.