التقارب الأميركي الكوبي والتغيّرات المتوقعة في العلاقات الأميركية اللاتينية

التقارب الأميركي الكوبي والتغيّرات المتوقعة في العلاقات الأميركية اللاتينية

29 ديسمبر 2014

كوبيون يتظاهرون في فلوريدا بعد الإعلان عن الاتصالات (20ديسمبر/2014/Getty)

+ الخط -
بعد اتصالات حثيثة، تمكّن الفاتيكان من تقريب المسافة بين هافانا وواشنطن، وأجريت مكالمة قرابة الساعة ما بين الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وزميله الكوبي، راؤول كاسترو، وذلك بعد جفاء وانقطاع دبلوماسي دام طوال 50 عاماً، وسبقت الاتصال مقابلات ومناورات دبلوماسية في كندا، بتشجيع الفاتيكان ومباركته. وستؤدي هذه المحاولات إلى تطبيع العلاقات تدريجياً بين البلدين.

سرعان ما أعلنت وزارة المالية الأميركية، إثر تصريحات أوباما، عزمها تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوبا في الأسابيع القليلة المقبلة، ما يعني كذلك إمكانية حصول الشركات الأميركية ومواطنيها على امتيازات لمشاركة الكوبيين في قطاعات العمل خارج كوبا، والمشاركة في مؤتمرات كوبية خارج الدولة ـ الجزيرة، وتنشيط الأصول المالية المجمّدة لحسابات الكوبيين الذين يعيشون خارج موطنهم.

على الرغم من رغبات أوباما تحسين العلاقات مع كوبا، إلا أنّ الأمر مرتبط بتوجهات الكونغرس الأميركي للسماح للمواطنين الأميركيين بزيارة الدولة ذات الاقتصاد الاشتراكي، لكنّ هذا الأمر يحتاج بعض الوقت. مصدر دبلوماسي آخر أكّد أنّ التغييرات في السياسة الأميركية الخارجية قد بدأت، وأنّ سياسة الحصار الاقتصادي ونظام العقوبات الذي امتدّ عشرات السنين، أثبت عدم فاعليته حتى اللحظة، ولا بدّ من التخلّي عنه.
تبادل الأسرى
أطلقت كوبا سراح المواطن الأميركي، ألن غروس، بعد مضيّ خمس سنوات على عقوبته المقدّرة بخمسة عشر عاماً، وأطلق سراح جاسوس أميركي قضى عشرين عاماً في السجون الكوبية. وفي المقابل، أطلقت الولايات المتّحدة الأميركية سراح ثلاثة عملاء لنظام كاسترو. ولعبت الكنيسة الكاثوليكية دوراً مهماً في إطلاق سراح السجناء، جنباً إلى جنب مع جهود البابا فرنسيس شخصياً.

من المتوقع كذلك أن ينال الرئيس الأميركي، أوباما، لوماً كثيراً من الأميركيين، ولن تعفيه الجالية الكوبية في ميامي من النقد واللوم، لإطلاقه سراح عملاء فيديل كاسترو، وهم الذين هربوا من موطنهم بعيداً عن بطشه.

وقد صرح السيناتور الأميركي، روبرت مينيندز، وهو من أصول كوبية ورئيس لجنة السياسة الخارجية في الكونغرس، غاضباً أنّ صفقة تبادل الأسرى تعتبر سابقة في منتهى الخطورة لمنح البراءة للحكومة الكوبية المستبدّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ باراك أوباما لم يكن قد وُلد حين بدأ الخلاف بين البلدين، ويحذّره خبراء ومراقبون عديدون من مغبّة المسارعة في تطبيع العلاقات مع كوبا، ورفع العزلة والحصار الاقتصادي عن نظام كاسترو. وليس متوقّعاً، بالطبع، أن يملأ السيّاح الأميركيون حانات هافانا، كما فعل من قبل إرنست همنغواي، وكلّ مَن يقصد كوبا يعرف أنّ الكاتب الأميركي الشهير قد قضى أجمل سنوات حياته في كوبا، وأقام في فندق أمبوس مونديس، وأمضى أوقاته في حانة فلوريديتا ومطعم بوديغيتا، ويعرض فندق أمبوس لرواده غرفة همنغواي، وفي وسطها ما تزال الآلة الكاتبة لهمنغواي، وفي داخلها ورقة بيضاء جاهزة للتحبير، وكذا نظّارتا الأديب الكبير وقلم رصاص، وفي الخزانة سترة الصيد وأخرى لمصارعة الثيران.

على الرغم من البعد العاطفي والوجداني، هناك تحفظات كثيرة تحول دون التقارب السريع والعاجل بين الولايات المتحدة وكوبا على نطاق واسع، أهمّها تمركز الاقتصاد بين أيدي نخبة من الكوبيين، كما الحال في روسيا بعد انفتاحها على الغرب والرأسمالية، وما تزال الديمقراطية هشّة وديكورية في كوبا، عدا عن استشراء الفساد في المجتمع الكوبي، ولا بدّ من تنشيط وإيجاد ثقافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية، قبل الانفتاح على هذا البلد، ومكافحة المكاتبية "البيروقراطية" على الأوجه كافة. على العكس من كوبا، تمكّنت الصين وفيتنام من الانتقال إلى نظام اقتصادي منفتح، مع الاحتفاظ بالإطار الشيوعي شكلياً، ما مكّنهما من تحقيق قفزة اقتصادية نوعية، وتحتاج كوبا مزيداً من الوقت لتحقيق ذلك تدريجياً. وعلى أيّة حال، لا ترغب أميركا بظهور بوتين آخر، لا يبعد عن شواطئها ما يزيد على 150 كيلومتراً.

وعلى الرغم من تحذيرات تلقاها أوباما، إلا أنّه أصرّ على المضيّ في التبادل الدبلوماسي مع كوبا، وافتتاح السفارات في هافانا وواشنطن، مع تنفيذ الاتفاق الذي أعلن قبل انتهاء العام 2014، وبعد انقطاع امتدّ خمسين عاماً. وسيبدأ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إعادة تقييم الإدارة الأميركية لكوبا دولة حاضنة للإرهاب. وستساعد جميع هذه الإجراءات في دمج كوبا في المجتمع الدولي، لتأخذ دورها في الحراك السياسي والاقتصادي الدولي. والمعلوم أنّ الدولتين في حالة عداء وخلاف إيديولوجي، منذ الثورة التي أعلنها الزعيم الكوبي فيديل كاسترو منذ العام 1959.
هافانا تربح
وفقاً لبيانات نشرها مركز الدراسات العالمي (Stratfor)، فإنّ السلطات في هافانا هي الرابح الأكبر في عملية التقارب بين البلدين، وخصوصاً أنّ فنزويلا، الشريك الإقليمي لكوبا، تعاني من حالة عدم استقرار اقتصادي، الأمر الذي سيؤثّر سلبياً على الاقتصاد الكوبي، وكذلك تشكّك كوبا بإمكانية استمرار تدفّق النفط الفنزويلي المدعوم بأسعار منخفضة.

في هذا السياق، أوضحت خبيرة الطاقة الفنزويلية، لولولا هيرنانديز بارباريتو، في كتابها (بتروأميركا: تكامل الطاقة في أميركا اللاتينية والكاريبي)، والذي نقلتاه إلى العربية كاثرين نهرا وديانا لبكي، بدعم من سفارة فنزويلا في بيروت، أنّ تكامل الطاقة في دول أميركا اللاتينية مطلب وطني، ينصّ عليه الدستور الفنزويلي، ويصبّ في جوهر مشروع الزعيم الراحل، هوغو شافيز، تحت مسمّى "اشتراكية القرن الحادي والعشرين". وصرّحت هيرنانديز، في لقاء مع صحيفة "السفير" اللبنانية، بتاريخ 01/12/2012، أنّ فنزويلا تصدّر النفط بأسعار رخيصة للغاية إلى كوبا، في مقابل الحصول على خدمات في مجال الصحة والتعليم والتأهيل الرياضي وإدارة المصافي، ما ينطبق كذلك على الإكوادور، لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجال صناعة البتروكيميائيات، وصفقات مشابهة أخرى مع الأرجنتين للتنقيب عن النفط، ومع كولومبيا لبناء خطوط أنابيب مشتركة، ومع البرازيل لاستخراج النفط الثقيل. على أن يتمّ استثمار هذه العائدات في التنمية الاجتماعية، وتحسين البنى الاقتصادية، والتوصّل إلى الاكتفاء الذاتي، بتخزين النفط للدول الفقيرة في أميركا اللاتينية.

هذه المعطيات قادرة على وضع أسس لنشوء اتحاد أميركي لاتيني على غرار الاتحاد الأوروبي، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك السلام الإقليمي في أميركا اللاتينية.

يدرك المشرّعون الأميركيون هذه التوجهات، والإمكانات الكامنة في التكامل الاقتصادي في دول أميركا اللاتينية. لذا، تبنّت الإدارة الأميركية سياسة قاسية وعنيفة ضدّ نيكولاس مادورو، الرئيس الخامس والسبعين لفنزويلا، مستغلّين الضغط الشعبي والاحتجاجات في فنزويلا التي تعتبر العائق الأكبر للمصالح الأميركية في أميركا اللاتينية. وعملياً، فإنّ فرض مزيد من العقوبات ضدّ فنزويلا سيعمل على زعزعة أسس النظام الشيوعي في كوبا، الأمر الذي أدركته هافانا، لتبدأ، بدورها، البحث عن بدائل تجلّت، أخيراً، في التقارب مع واشنطن، أملاً في رفع الحصار الاقتصادي، والتخفيف من العقوبات المفروضة على الدولة ـ الجزيرة. عملياً، يعتبر التحالف العضويّ بين فنزويلا وكوبا بمثابة تحدّ كبير للسياسة الخارجية الأميركية، ويدرك المشرّعون الأميركيون أنّ التقارب مع كوبا سيؤثّر سلبياً على تحالف النظامين الشيوعيين، وسيساهم في محاصرة بوتين الذي يسعى إلى زيادة رقعة نفوذه حول العالم، علماً أنّ روسيا قد أوقفت دعمها كوبا، المقدّر بقرابة 10 مليارات دولار سنوياً، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، لتعوّضها فنزويلا في ما بعد. لذا، ليس متوقعاً أن تخضع الإدارة الأميركية لضغوط مناوئي الأخوين كاسترو في الولايات المتّحدة، وستمضي في عملية التقارب على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي في المراحل المقبلة.
رفع الحصار مشروط بالديمقراطية
وستستمر عملية رفع الحصار الاقتصادي عن كوبا سنوات، قبل أن تصبح حقيقة، وسينتظر المشرّعون الأميركيون اعتماد كوبا قوانين حماية الحريات الخاصة وحقوق الإنسان، ووضع أسس للممارسات الديمقراطية والليبرالية السياسية، واللجوء لصناديق الاقتراع، والتخلّي عن الأساليب الأمنية، والتوقّف عن قمع المواطنين، متذرّعة بالدفاع عن الأمن القومي. وقد تتناول هذه الإجراءات شأن استقالة الرئيس راؤول كاسترو لتقدّمه في العمر. ويحتاج هذا كله عقوداً من الزمن ليتحقّق، لكن البدء بهذه الإجراءات يكفي لإبداء حسن النيات، وتسريع رفع الحصار الاقتصادي، ودمج كوبا في المجتمع الغربي.

يمكن عقد مقارنة تاريخية بالتقارب الذي شهدته الولايات المتحدة الأميركية والصين، إبّان حقبة ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر في سبعينيات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس رونالد ريغان أيضاً، كما شهدت رئاسة جورج بوش وبيل كلينتون تحسين العلاقات مع فيتنام وتطبيعها، في العام 1995، بعد 20 عاماً من انتهاء الحرب بين الدولة العظمى وفيتنام. كوبا ليست الصين أو فيتنام، من حيث الحجم، لكن يمكن أن يحدث التقارب الأميركي معها تأثيراً مباشراً على العلاقات الأميركية مع باقي دول أميركا اللاتينية، الأمر الذي ترحّب به الولايات المتحدة ضمن التوازنات الجيوسياسية المعاصرة.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح