التحركات الشعبية وأوراق الكرنب

التحركات الشعبية وأوراق الكرنب

18 مايو 2017
+ الخط -
التحركات أو الإنتفاضات أو الهبّات أو الهوجات أو الموجات التي تخرج في الشارع، تعبيراً عن غضب شعبي أو امتعاض جماهيري، أمر مقدّر ومحترم ممن يجل الشعوب ويراها مصدراً للسلطات ومالكة القرار وصاحبة السيادة. لذا لا يزايدن أحد على احترامي اللامحدود لكلّ التحرّكات الشعبية، وأنها على العين والرأس، غير أنّ الأمور لا تسير بهذه البساطة وذاك اليسر المتصوّر، فما هكذا تورد الإبل.
لا بدّ من وجود رؤية شاملة وتصوّر كلّي واع، لا يجوز أن تكتفي الجماهير الهائجة بإعلان رغبتها فقط في هدم الموضوع، وتغيير الموجود، مكتفية باقتراح الأهداف النبيلة والبرامج غير الواقعية من دون وجود أو إيجاد التربة الملائمة لإنبات آليات التغيير وصيغ البناء، بعد وضع الأهداف المتدرجة المناسبة لجو الهدم وإعادة التشييد، وصولا إلى الأهداف المبتغاه الكبرى، آخذة بالاعتبار قوى الرجعية الداخلية والخارجية، واعية ما يحاك وينسج من شراك وفخاخ محكمة، واضعةً بدائل متنوعة وخيارات مرنة متعدّدة، أما ما عدا ذلك، فإنّه غالباً ما يواجه بانتكاسةٍ وردّةٍ أكيدتين، نتيجة ضراوة حربٍ لا هوادة فيها تشنّها العناصر المناوئة التي تمتلك أدواتها من خبرات عتيقة متمرّسة، وتمويل ضخم لا يستهان به وتأثيرات إقليمية وتدخلات عالمية، لأنّ العالم له كبار يقومون على أمره، فالمسألة ليست داخلية بحتة أو قطرية محضة، كما يتوّهم حسنو النية والمبتدئون من مستجدين ألقت بهم رياح التغيير في صدارة المشهد دون سابق نذير أو إنذار.
ما حملني على ذكر ما ذكرته ما يحدث الآن في بلاد لبنان من عراك شعبوي وتحرّك جماهيري، لرفض قانون الانتخابات الذي يكرّس ما لا يرغب فيه بعضهم، وتستفيد منه أطراف خارجية إقليمية ودولية متناسية صالح اللبناني، داهسة أشجار الأرز، كما تداس في بلاد اليمن الذي كان سعيداً، ولم يعد كذلك، فالمشهد فيه يتصدّره الإقتتال اللامنتهي وتفشي الكوليرا وعلاقات جنوب اليمن بدولة الإمارات ومساندتها للزبيدي وغضب عبد ربه منصور (المؤّيد سعوديا) لهذه المساندة وذاك التدخل، ووسط هذا إذا ما دعا إلى مليونيات حاشدة، سواء في اليمن أو لبنان، فأغلب الظن أنّ القات ما زال يزرع في بلادنا والإقبال مستمر عليه.
أعشق كلّ الزهور العربية، البردي والياسمين والأرز، وحتى القات يذكّرنا بإرهاق بني جلدتنا، لأنّ كلّ بلاد العرب أوطاني، لكني أستنكر الحشود الشعبوية والمظاهرات المليونية التي أمسى إثمها أكبر من نفعها، وهي التي ما عادت تنتج أثراً إلا أصواتاً زاعقة تذروها الرياح وضجيجاً بلا طحين، يشبه تلك الأصوات التي تخرجها بُطُون اعتادت التهام أوراق الكرنب (الملفوف).
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
طارق البرديسي (مصر)
طارق البرديسي (مصر)