الإطار الفكري لصفقة القرن

الإطار الفكري لصفقة القرن

30 يونيو 2018
+ الخط -
تحتاج كل خطة إلى إطار يغلفها فكرياً، وإلى مبرّر مقنع لأنصارها، وإلى براغماتية تُفرض على أعدائها. ولا تعد ما يُطلق عليها "صفقة القرن" استثناء، فكما تم توفير الدعم المالي لها على يد أكثر أنصار إسرائيل تطرّفاً داخل الولايات المتحدة، بأموال الملياردير شيلدون أديلسون وغيره، تم تطوير إطار فكري لها تتبناه أكثر أجنحة تيار المسيحية الصهيونية تطرّفاً. وعلى الرغم من عدم الإعلان بعد عن تفاصيل هذه الخطة الأميركية على الأرض، إلا أن الغطاء الفكري لما سيتم طرحه مُعلن، ولا يتردد أنصاره في الإشادة به، ولا يملّون من السعي إلى ترجمته وفرضه أمراً واقعاً على الأرض.
خطوط عريضة يجتمع حولها أنصار هذا التيار، المعروف بدعمه غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل، في وقتٍ لا يكترث فيه بأي من حقوق الفلسطينيين المنطقية والمشروعة، والمتفق عليها حتى بين أغلبية الإسرائيليين. ولفهم رؤية هذا التيار المهم الذي تتبع الغالبية العظمى من أنصاره (هناك من يقدّرهم بأكثر من 50 مليون أميركي) العقيدة البروتستانتية يجب فهم تأثر البروتستانتية باليهودية. وكيف نتج عن هذا التأثر تعايشٌ يشبه التحالف المقدس بين البروتستانتية واليهودية بصورة عامة، وأوجدت علاقةً أكثر خصوصيةً بين الصهيونية اليهودية والبروتستانتية الأصولية. وتتميز حركة المسيحية الصهيونية بسيطرة الاتجاه الأصولي عليها 
(من أهم سياسييها حالياً نائب الرئيس مايك بنس) وتؤمن "بضرورة عودة الشعب اليهودي إلى أرضه الموعودة في فلسطين، كل فلسطين، وإقامة كيان يهودي فيها يمهد للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه لمملكة الألف عام". وقد تأثرت المسيحية الصهيونية بثلاث حركات، تجمع بينها خلفية التفسير الديني المعتمد على النصوص التوراتية. وعلى الرغم من تباين هذه التوجهات وتناقض بعضها مع بعض أحياناً، فإن التفسير الحرفي للتوراة والإيمان بضرورة مساعدة إسرائيل جمع بينها. والحركات: واحدةٌ تهتم بقضية نهاية العالم ومؤشراته، وثانية تهتم بقضية التقرّب من اليهود من أجل المسيح، وثالثة تركز على الدفاع عن إسرائيل، وعلى مباركتها ودعمها بكل ما هو ممكن ومتاح.
يرفض هذا التيار وجود دولة فلسطينية على حدود ما قبل 5 يونيو/ حزيران 1967، ويرفض عودة اللاجئين، ويرفض أي حوار بشأن مستقبل القدس. ويكرّر أنصار هذا التيار مقولاتٍ من قبيل إن من الجنون الاستمرار في التعويل على حل دبلوماسي، عن طريق التفاوض للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ويسخرون مما يشار إليها بعملية سلام الشرق الأوسط، حيث يتم "تكرار أحاديث الماضي وإتباع المسارات نفسها وتوقع نتائج مختلفة"، كما يقولون، في إشارةٍ إلى عملية سلام الشرق الأوسط المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود، من دون تحقيق تقدم. ويعتقد أنصار هذا التيار أن "المبادئ البالية القديمة، مثل الأرض مقابل السلام، أو حل الدولتين (فلسطينية بجوار دولة إسرائيلية)، أو أن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، أصبحت أوهاماً يجب معها التمتع بالشجاعة لعدم الحديث عنها بعد الآن". ويدعو تيار المسيحية الصهيونية إلى التفكير الجديد لحل الصراع، بعيداً عن أوهام الماضي، ليمكن التفاعل بمنطلقاتٍ جديدةٍ وحسم الصراع وحله.
وينطلق منطق حسم الصراع عند هذا التيار من رؤيةٍ تاريخيةٍ لصراعات القرن العشرين، وهى صراعاتٌ تم حسمها بانتصاراتٍ واضحةٍ وصريحةٍ، وباعتراف كل أطرافها ونجاحها في إنجاز سلام بعد ذلك. ويستشهدون هنا بحالة الهزيمة الكاملة لألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، والتي نعمت فيها الدولتان بالسلام الكامل لاحقاً، بعدما اعترفت أولاً بالهزيمة الكاملة، واستسلمت للمنتصرين. ويستشهدون كذلك بحالة الحرب الأميركية في فيتنام، حيت تم هزيمة أميركا وحلفائها الجنوبيين، وتحقيق انتصار ساحق لفيتنام الشمالية، وتوحيدها فيتنام، وهزيمتها الخطط الأميركية، وهو ما سمح بعد ذلك بوجود سلام وعلاقات ممتازة بين واشنطن وفيتنام.
أما الصراعات والحروب التي لم تُحسم بهزيمة واضحة، واعتراف كامل بالهزيمة، لم يتحقق السلام فيها ولا بعدها، فيستشهدون للتدليل عليها بحالة الحرب الكورية من 1950 إلى 1953، وانتهت بهدنة فقط، على الرغم من سقوط ملايين الضحايا بين الأطراف المتحاربة، وهو ما ترك النزاع مستمراً. وبالمنطق نفسه، يرى مفكرو المسيحية الصهيونية أن عدم حسم إسرائيل انتصاراتها العسكرية وعدم دفعها الفلسطينيين والعرب إلى الاعتراف الكامل وغير المشروط بالهزيمة هو ما يجعل الصراع مستمراً بلا نهاية.
ويؤمن هذا التيار بأنه لا يجب الانتظار لحل قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كي تُحل بقية قضايا الشرق الأوسط وصراعاته. ويعتقدون أن أصل الصراع وقلب المشكلة هو عدم 
الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل دولة يهودية مستقلة. يؤمنون أنه لم تعد هناك أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، بعدما خسر الفلسطينيون فرصة تاريخية منحت لهم بين عامي 2000 ــ 2008. يدعون الفلسطينيين إلى إدراك أن قادتهم والقادة العرب هزموهم، وضيعوا فرصاً حقيقية للسلام. يريدونهم أن يقرّوا بانتصار المشروع الإسرائيلي، وهزيمة المشروع الفلسطيني العربي، وبأن لا مكان لهم في الضفة الغربية، وأن بديل دولة مستقلة يتبخر سريعاً، وإن استلزم إيجاد دولة فلسطينية فلتكن بديلاً للأردن، أو كما يحلم بعضهم بدولةٍ تشمل قطاع غزة، وتضم سيناء.
ولا يتحرّك هذا التيار وحده، فرؤيته تلك يوافق عليها قولاً وفعلاً دول وحكام عرب. خلال زيارته أخيراً واشنطن، تحدث حاكم عربي، في جلسة مغلقة جمعته بقادة منظمات يهودية، إضافة إلى مفكرين وخبراء في شؤون الشرق الأوسط من عدة مراكز أبحاث، ونادى فيها بضرورة استغلال إدارة ترامب حالة الضعف العربي غير المسبوق، والانقسام الفلسطيني من أجل إنهاء قضية فلسطين. وقال ذلك الحاكم إن العرب، حكومات وشعوباً، مشغولون بدرجةٍ كبيرةٍ بشؤونهم الداخلية الضيقة، سواء تبعات الربيع العربي، أو تبعات ظهور تنظيمات الإرهاب وتمددها، أو عداء إيران أو تركيا، وهو ما سمح بتلاشي الاهتمام الشعبي والحكومي الرسمي بالشأن الفلسطيني. وذكّر الحاكم العربي الحاضرين بأن الدول العربية المعتدلة ستضغط على الفلسطينيين للقبول بما يقدم لهم.
.. يبتعد فكر "صفقة القرن" بالصراع عن أصله، ويساهم حكام عرب في إقناع أجيالٍ جديدةٍ من الشباب والأطفال العرب بأن "الاحتلال ليس هو أصل القضية".
C80C0F15-4B78-4906-8EEA-DEB8249D0427
محمد المنشاوي

كاتب صحفي مصري في واشنطن متخصص في الشؤون الأميركية