أزمة خاشقجي بين مدن ثلاث

أزمة خاشقجي بين مدن ثلاث

12 أكتوبر 2018
+ الخط -
أسئلة كثيرة تدور بشأن اختفاء الكاتب السعودي جمال خاشقجي، أغلبها يتعلق بتفاصيل ما جرى، وبعضها يتعجب من كل هذا الاهتمام. وبعيدا عن سير خط التحقيقات، وبعيدا عما جرى له، أصبح الرجل رمزا عالميا لأشياء كثيرة وأفكار نبيلة عند أغلب دول العالم ومجتمعاته، منها "الحق في التعبير" و"حرية النشر والانتقاد" و"سيادة القانون" و"ضرورة احترام القانون الدولي" واخيرا "أمن الصحافيين وسلامتهم".
وفي أحد أبعادها، ارتبطت قضية اختفاء خاشقجي بثلاث مدن مهمة على الصعيدين الدولي والإقليمي، وهو ما ساهم في مضاعفة الإثارة والانجذاب للقضية. الرياض وواشنطن، وإسطنبول، العاصمة الاقتصادية لتركيا، وأكبر مدنها.
وبداية، الرياض التي يتحكم في مصيرها وتوجهاتها ولي عهد شاب، عديم الخبرة بالمعايير الدولية والسياسية، ولد أميرا وصعد السلم كونه النجل المفضل للملك، وليس لتمتعه بأي قدرات أو إمكانات، وعلى النقيض من القادة السياسيين الشباب في الغرب، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودر، لم يخض محمد بن سلمان أي انتخابات تنافسية، ولم يبذل العرق ليصعد سياسيا. عرف عن ولي العهد قيامه بمغامراتٍ تسببت في مقتل آلاف والإضرار بملايين، سواء في الحرب على اليمن أو اختطاف رئيس وزراء لبنان سعد الحريري، أو الحصار على قطر.. وغير ذلك. ومن ناحية أخرى، لخاشقجي علاقات طيبة مع كثيرين من القيادات السعودية السياسية والإعلامية، ولا يشكك في شرعية منظومة الحكم السعودية، ولا يدعو إلى الثورة، بل يطالب بالإصلاح.
إسطنبول، العاصمة التاريخية لآخر دول الخلافة الإسلامية، والعاصمة الاقتصادية لتركيا، والتي تتمتع بديمقراطية مقبولة، سمحت بوصول حزب إسلامي إلى الحكم قبل أكثر من عشر سنوات. وتملك تركيا ثاني أكبر جيوش حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي إليه، وتتمتع بنفوذ 
إقليمي واسع. وتُعرف تركيا بامتلاكها أجهزة أمنية واستخباراتية ذات كفاءة، بشقيها الإيجابي والسلبي. وتشهد علاقات تركيا المعقدة والمتشابكة والمتنوعة مع السعودية وبالولايات المتحدة فترة اضطراب قبل الأزمة الحالية. ولخاشقجي علاقات جيدة بكثيرين من القيادات السياسية والإعلامية التركية.
واشنطن ثالث العواصم في لغز اختفاء خاشقجي، اتخذها منفىً اختياريا قبل أكثر من عام، وأقام في شمال ولاية فيرجينيا. وعلى الرغم من عدم تمتعه بالجنسية الأميركية أو بالإقامة الدائمة (الغرين كارد)، يعد الاعتداء عليه اعتداءً على أحد المقيمين في الولايات المتحدة، وجدير بالذكر هنا التذكير بأن قيمة المقيم هنا تختلف عن قيمة المقيم في دول الخليج والسعودية.
ويعرف الرجل واشنطن جيدا، إذ سبق له العمل في سفارة بلاده فيها مسؤولا عن ملفات الإعلام والعلاقات العامة، ومستشارا للسفير الأسبق تركي الفيصل، وسمح ذلك كله لخاشقجي أن يبني شبكة واسعة من العلاقات مع سياسيين وإعلاميين وباحثين أميركيين. وبعد وصوله إلى واشنطن، أصبح كاتبا منتظما في صحيفة واشنطن بوست، وأصبح ذا أهمية إضافية، إذ أصبح أحد المراجع الهامة لفهم التطورات السريعة التي تشهدها السعودية منذ وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد.
منذ اللحظات الأولى لأخبار اختفاء خاشقجي، لعب الإعلام الأميركي دورا كبيرا في إلقاء الضوء على القضية، وكان لتركيز "واشنطن بوست" بداية، كونه أحد كتابها، دورا كبيرا في دفع منافستها الأهم والأشهر "نيويورك تايمز" إلى تخصيص مساحاتٍ واسعةٍ لتغطية الموضوع. وتم إرسال عشرات من الصحيفتين إلى تركيا لمحاولة فك طلاسم عملية الاختفاء. وساهم وجود "خطيبة تركية ومشروع زواج" في مضاعفة البعد الإنساني للتغطية. وبعد مرور أكثر من أسبوع على الاختفاء، لا تخلو صفحات الرأي والافتتاحيات والتقارير الإخبارية في كبريات الصحف ومحطات التلفزيون من موضوع جمال خاشقجي.
ضغط الإعلام الأميركي على البيت الأبيض للتدخل في القضية. وألقى الإعلام باللوم على
 علاقة ترامب وصهره جاريد كوشنر الحميمة مع محمد بن سلمان، والتي يرون أنها دفعته إلى التفكير الشيطاني خارج الصندوق، والإقدام على مغامرة جديدة غير محسوبة العواقب. وبعد تردّد، اضطر أركان منظومة الحكم الأميركية للدخول على خط الأزمة، مطالبين الرياض بإجابات وافية. أعلن ترامب تواصله مع أكبر المسؤولين في الرياض لمعرفة ما جرى، وتواصل مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ومستشار الرئيس، جاريد كوشنر، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، مع ولي العهد السعودي بشأن القضية. أما الكونغرس فيبحث في فرض عقوبات وحظر تصدير السلاح إلى السعودية، إذا تم تأكيد تقارير مقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده.
قد لا تدرك السعودية أهمية الصحافة وقيمة حياة صحافي، إلا أن الأكثر مفاجأة عدم فهم كيف تعمل واشنطن. استخدم السفير السعودي لدى واشنطن، خالد بن سلمان، وهو الأخ الأصغر لمحمد بن سلمان، لغة ترامب المعادية للإعلام، ولا يبدو مدركا لحجم الأزمة الحالية وعمقها.
سوء صورة السعودية عند الأميركيين على الرغم من تقديم المليارات لترامب كبير، وبعيدا عن "11 سبتمبر"، وملفي الإرهاب والوهابية، دفعت صور ضحايا الحرب في اليمن هذه الصورة إلى أدنى مستوى، وهو ما لا يمكن إصلاحه في المستقبل المنظور.. وإذا صحّت الاتهامات للسعودية، فسيكون حجم الخسارة فوق توقعات الجميع، خصوصا من الكونغرس الذي على الأقل سيوقف بيع الأسلحة وشحنها إلى السعودية في وقت تستمر الحرب على اليمن بدون حسم سعودي. تجمع الرياض وواشنطن علاقات استراتيجية معقّدة، متشابكة في جوانبها العسكرية والاستخباراتية والتجارية والتعليمة، وذلك منذ التأسيس لها عام 1945، إلا أن تبعات الأزمة الحالية قد تأخذها إلى منحنىً لا يعرف أحد حدوده.
C80C0F15-4B78-4906-8EEA-DEB8249D0427
محمد المنشاوي

كاتب صحفي مصري في واشنطن متخصص في الشؤون الأميركية