الأمن القومي ليس ثكنة عسكرية

الأمن القومي ليس ثكنة عسكرية

13 يونيو 2014

Jonathan McHugh

+ الخط -

 

مبكراً، تعرّفنا، عندما درسنا على أستاذنا الدكتور المرحوم، حامد ربيع، كتابه "الأمن القومي العربي"، على هذا المفهوم "المحوري"، الذي يتعلق بالدولة وكيانها وفهمها الاستراتيجي لوظائفها وأدوارها، وميز، بشكل دقيق، بين الأمن القومي، بمفهومه العسكري الضيق، والأمن بمفهومه الاستراتيجي الممتد والعميق، والذي يتجاوز هذه المعاني إلى معنى أرحب، يعبر عن كل طاقات الدولة والمجتمع، في الحفاظ على الكيان والعمران والإنسان. وبدا هذا المفهوم مقدمةً لمفهوم، برز بعد وفاة أستاذنا، عن "الأمن الإنساني"، ليعبر عن امتداد آخر، لا يرى الأمن القومي إلا باعتباره امتداداً للأمن الإنساني، لا يمكن أن يكون على حساب الإنسان، وكيانه وكرامته وحرياته الأساسية وحقوقه التأسيسية.
إلا أنه، وفي ظل خطاب للمنظومة الانقلابية، بدا هذا المفهوم يعاد ترتيبه من داخله، وتسميم عناصره في منظومته، ومحاولة الإخلال بكل مكوناته، والدسّ عليه بما ليس منه، وإخراج مما يقع في دائرة تأسيسه وتمكينه، وبدت هذه المنظومة الانقلابية، التي انقلبت على كثير من عالم المفاهيم المستقرة مثل الدولة والشعب والوطن، تجعل من هذا المفهوم محلاً لتلاعبها، لا باعتباره أمراً، يشكل دائرة الثبات، ولكن، باعتباره توظيفاً لمنظومة الانقلاب، وشرعنة كثير من سياساتها، وإضفاء شرعنة على مزيد من تجاوزاتها وطغيانها.   
ومؤسف حقا هذا الاستخفاف الشديد في التعامل مع مفهوم الأمن القومي، وهو استخفاف يضر بمصلحة الدولة والمجتمع، والعلاقة بينهما، وإضرار بالتاريخ ومعطياته الاستراتيجية، ويتجاهل حقائق المكان والزمان وقيمة الإنسان، إنها عبقرية المكان التي أشار إليها جمال حمدان.
ومن الإهانة والاستهانة بالأمن القومي، أن المنوط بهم القيام على شؤون الدولة، ويصدّعوننا بأنهم رجال دولة، هم أكثر من يهينون الدولة. وواحدة من أهم سبل إهانة الدولة هي العبث بمفهوم الأمن القومي واصطناعه، على أعين مصالحهم الآنية والأنانية، ليعبر عن تحالفات مجتمعية تحركها مؤسسات الفساد وشبكات الاستبداد!، فعلى الرغم من أن الأمن القومي، كمفهوم له مؤشرات ومعايير، وبحسبانه عملية في حد ذاته، يتعرض لتدهور وتصور سطحي وتقزيمه واختزاله من "الأقزام" الذين يسيطرون على الدولة.

" هل تتخيلون أن دولة تتنصت على مواطنيها، وتهدي تسجيلات لمندوب لها على شاشة الفضائيات، فيذيعها، بحجة أن الأمن القومي يتطلب ذلك! تكميم وتكتم هنا، واستباحة للخصوصيات والحرمات، ومحاولات الرقابة الدنيئة على وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات والإعلان عن ذلك بفجاجة، ترهيباً بدفع الجميع إلى صناديق الخوف والرعب، وإذا ما هتفتم بالحرية، قارعوكم بالأمن القومي"


إنه المفهوم المُعَمّى، حينما يتحدث عبد الفتاح السيسي، "المرشح"، حينما سُئل عن البرنامج الانتخابي، معتذراً عنه، وعن تقديمه، لأنه مسألة تتعلق بالأمن القومي، وهو، أيضاً، يتحدث عن المؤسسة العسكرية كأمن قومي، ومناقشة ميزانيتها كأمن قومي.. استخفاف شديد بأصول إدارة الدول، مؤسسات الدولة لا تخرج على قواعد الشفافية والمحاسبة والمساءلة والمتابعة والمراقبة المحاسبية والشعبية، وفي سياق يعتبر المؤسسة دولة فوق الدولة، فكأنه يقول إن السبل الديمقراطية تؤذي الأمن القومي، لحماية سلوك العتمة والتحصين وعدم المساءلة.
وقد وصل الأمر بأحد الخبراء الموصوفين بالاستراتيجيين أن يقول: سكن الرئيس أمن قومي، ومكان إدارة عمله أمن قومي، تبريراً وتمريراً لحاله في الاختباء وعدم الظهور.
الأمن القومي، حينما يخلط بالوطنية الزائفة، التي لا تراعي مصلحة وطن، أو مستقبل أمة، يكون الأمر خطيراً جداً، فتتلاشى المسافة بين القانون والسلطة، وتصبح السلطة ذاتها هي مصدر القانون.
هل رأيتم كيف يستخف الانقلاب بالدولة والمجتمع؟ فيعيد عدلي منصور إلى منصبه في المحكمة الدستورية العليا، لكي يفصل في القوانين التي أصدرها، وقت أن كان رئيساً مؤقتاً، وإذا سألت عن ذلك قالوا لك: أمن قومي.
لا تتحدثوا عن التحرش والاغتصاب، حتى لا تفسدوا العرس الديمقراطي .. أمن قومي، إذا سألنا عن نتائج التحقيقات في المذابح والجرائم، يتكتمون بحجة الأمن القومي.
هل تتخيلون أن دولة تقوم بالتنصت على مواطنيها، وتهدي تسجيلات لمندوب لها على شاشة الفضائيات، ويذيعها، بحجة أن الأمن القومي يتطلب ذلك!  تكميم وتكتم هنا، واستباحة للخصوصيات والحرمات، ومحاولات الرقابة الدنيئة على وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات والإعلان عن ذلك بفجاجة، ترهيباً بدفع الجميع إلى صناديق الخوف والرعب، وإذا ماهتفتم بالحرية، قارعوكم بالأمن القومي.
والإعلام، في هذا السياق، يمارس دوراً خطيراً جداً. إنه أدوات السلطة في تثبيت هذا التصور الخطير لمفهوم الأمن القومي!  والتشكيل الباطل والكاذب للمفهوم وترويجه لصناعة الاستبعاد والاستعباد، والاتهام بالإرهاب وصناعة الكراهية.
فإذا كان حسني مبارك قد احتكر مفهوم الأمن القومي، وقام بتقزيمه، فإن العسكر تلاعبوا به بتسميمه وتأميمه. لا علاقة لما يحدث، الآن، بالأمن القومي، بل بأمن الانقلاب ووجوده وحياته، وثمة فارق بين مصلحة السلطة أو مصلحة النخبة الحاكمة ومصلحة الوطن، إلا أن دولة الاستبداد، التي تخلط عمداً بين مصلحة السلطة ومصلحة الدولة ومصلحة الوطن ومصلحة الحاكم، فأصبح الحديث عن الحاكم أمناً قومياً!
الأمن القومى وتصديره غطاء ليس إلا تسويغا للاستبداد، وتكميماً للأفواه، وتكريسا لعملية التخويف والتكتيف، وتحريكاً لحركة الدولة القمعية البوليسية، والفاشية العسكرية، وتمريراً للمحاكمات العسكرية، وتوزيعا لاتهاماتٍ، تبدأ من تعكير صفو الأمن العام، وحتى تهم التخابر والخيانة العظمى.
الأمن القومي ليس إلا تبريراً لإزهاق أيّ إنسان، والإضرار بمصالح الوطن، إنه المفهوم الطاغي على حياة الناس، والمتغول على سكناتهم، يدخلهم في معادلة المقايضة بين الأمن والحرية، وكأن الأمن هو خصم الحرية دائماً، والحرية خصم الأمن.
لا يا سادة .. الأمن القومي ليس سبيلاً للفاشلين والمتآمرين والفاسدين.
شعار الحالة الانقلابية: إذا أردت أن تغطي فشلك، قل: "أمن قومي"، إذا أردت أن تغطي فسادك أو تمرره، قل: "أمن قومي"، إذا أردت أن تغطي انحطاطك ووقاحتك، قل: "أمن قومي"، إذا أردت أن تمرر أمراً، وتحيطه بالسرية والظُلمة الدامسة، فلتدمغه بوصفه أن هذا من الأمن القومي، إذا أردت أن تدخل شعبك في صندوق الخوف وبيت الطاعة، قل: "أمن قومي"، إذا أردت أن تمرر حديث المؤامرة، وتفسير كل شيء فيها، وبالفشل الذريع الذي يرتبط بسياسات هذه المنظومة الانقلابية، فقل إن هذا الفشل يرتبط باستهداف مصر وأمنها القومي، إذا أردت أن تحدد علاقاتك بدول الجوار الحضاري، التي تشكل عمقاً استراتيجياً للأمن القومي لمصر، وكانت على خلاف معك، فقل إنها تهدد الأمن القومي.
 أيها الانقلابيون: لا تقايضوا عموم الشعب بين أمن الدولة القومي وأمن المواطن الإنساني، لا بد وأن تتعلموا شيئاً، يصعب عليكم فهمه أو تعلمه، فحينما تغتصبون كل شيء، ولا تفكرون إلا في شأن تمكين كرسي السلطة، فإن الأمن الذي يتعلق بالإنسان ينحدر إلى الحضيض،  فينتهك كل أمر يتعلق بالكرامة الإنسانية، ويستهين بحرمات النفوس والأرواح، ويقدم ما من شأنه أن يكرس معاني الطغيان على كيان الإنسان، بدعوى الأمن القومي وأمن الدولة، من الخطورة بمكان أن تتحول ملفات الوطن وأزماته إلى ثكنات عسكرية ممنوعة الاقتراب والتصوير، تبريراً للتعتيم أو عدم المساءلة أو تمريراً لصناديق الاستبداد السوداء، لا شك في أن في هذه الرؤية خطراً على الأمن الحقيقي ذاته.
الأمن القومي موصول بالأمن الإنساني، أنتم من انتهكتم الأمن القومي، حينما تلاعبتم به، وانتهكتم الأمن الإنساني حينما تغولتم عليه.

 

 

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".