الأزمة مستمرة بين الإسلاميين والليبراليين

الأزمة مستمرة بين الإسلاميين والليبراليين

29 اغسطس 2017
+ الخط -
كشفت ندوة "الإسلام والليبرالية" التي نظمها صالون الكواكبي لمركز حرمون للدراسات المعاصرة في إسطنبول أن الثقة لا تزال مهزوزة بين الإسلاميين والليبراليين العرب. من شاركوا في الورشة لا يمثلون كل أطراف المشهد الإقليمي، لكن النقاش الذي دار أكد بوضوح أن التحولات السياسية المحلية والإقليمية في السنوات الماضية انعكست سلبا على العلاقة بين الطرفين، باستثناء الحالتين التونسية والمغربية. وحتى هاتان التجربتان، فإن موازين القوى الاتتخابية هي التي فرضت التوصل إلى صيغ من التعاون والتقاطع بين الإسلاميين والليبراليين، وليس تطور المرجعيات الأيديولوجية لكليهما. هناك فرق واسع بين الضرورة والاختيار، وهو ما يفسّر تبادل الشكوك، واستمرار الحذر بين الطرفين.
تعتبر مصر في مقدمة الساحات التي انتكست فيها هذه العلاقة بشكل تراجيدي، فالإخوان المسلمون يتهمون الليبراليين بأنهم انحازوا، في أغلبهم، إلى الانقلاب الذي أطاحهم في مصر، واستعمل في حقهم أقسى درجات القتل والتنكيل. أثار هذا الاتهام الخطير، ولا يزال، غضب الليبراليين المصريين، وجعلهم يوجهون، في المقابل، إلى "الإخوان" تهمة الانقلاب على الثورة، وحرصهم على احتكار السلطة والهيمنة على الدولة، وبالتالي الإجهاز على الانتقال الديمقراطي. وإذا كان الإخوان المسلمون يطالبون الليبراليين بالاعتذار عن انحيازهم للسلطة الجديدة، وتبريرهم القمع، فإن خصومهم يلحّون في دعوتهم إلى ممارسة نقدهم الذاتي، وإثبات إيمانهم الفعلي بالديمقراطية. وهكذا، يستمر الجدل في مناخ غير صحي، ولا يخدم سوى خصوم الطرفين.
إلى جانب المناخ السياسي الرديء في معظم الساحات العربية، لا يمكن القفز على العوامل الفكرية التي لا تزال تشكل فرامل تحول دون تحقيق تقدّم فعلي، في اتجاه بناء صفحة جديدة بين هذه الأوساط والقوى الحزبية والاجتماعية. وفي هذا السياق، لا يمكن أن ينكر الإسلاميون أن للخطاب الليبرالي الفضل في مساعدة خطابهم السياسي الحركي على الخروج من مآزق عديدة حصلت بسبب اجتهادات خاطئة، أقدم عليها بعض منظريهم، ما كان له أسوأ الأثر على الفكر الإسلامي، وأدخلهم في صراعاتٍ بدون جدوى، ولا مبرّر. فتأثير الليبرالية كان مختلفا كثيرا عن علاقة الإسلاميين بالفكر الإسلامي. وما يطلق عليه اليوم بالحركات أو القيادات المعتدلة داخل أوساط الحركات الإسلامية إنما يعود ذلك إلى درجات انفتاحهم على التراث الليبرالي الحديث، واستثمار أجزاء منه لتصحيح منهجهم، وتعديل نظرهم وبناء مطالبهم الإصلاحية، خصوصا في مسائل توزيع السلطات، والاعتراف بالحد الأدنى من الحريات. وهي تغييرات مهمة أخرجت معظم هذه الحركات من الخطاب العقائدي الانفعالي والإقصائي، ومكّنها من أن يتوفر بينها وبين بقية مكونات المعارضات المحلية قواسم مشتركة، سمحت بالحد الأدنى من مقومات التعايش والتنافس المنظم. كما فتحت المجال، في بعض التجارب المتقدمة نسبيا، أمام إمكانية تأسيس حكومات ائتلافية، أثرت بوضوح على الثقافة السياسية لإسلاميين عديدين، وأدمجتهم في صلب مجتمعاتهم، بعد أن كانوا حريصين على تعميق القطيعة والتميز الشعوري، والانطلاق نحو مغامراتٍ عنيفة وفاشلة، مثلما يحصل الآن مع "القاعدة" و"داعش" وما شابهها من تنظيمات مسلحة ذات منهج خارجي وانقلابي، بلا أفق ولا مستقبل.
على الرغم من تقدم الخطاب، إلا أن الممارسة لم تتبع الخط التصاعدي المنفتح نفسه. وكما يعاب على الإسلاميين عدم وضوح أهدافهم واتباعهم أحيانا ازدواجية الخطاب، أو بتعبير تراثي "التقية"، فإن الليبراليين يمارسون، في أحيانٍ كثيرة، مع الإسلاميين أسلوب المناورة، ولا يثقون في خطاباتهم، ويشكّون في نواياهم، ويخافون منهم، باعتبارهم منافسا سياسيا قويا قادرا على أن يقصيهم في أي لحظة. ومن هنا، يلاحظ أن عامل الثقة بين الطرفين لا يزال ضعيفا، مهما تطورت العلاقة وتعدّدت التجارب. وتعتبر الحالة التونسية معبرة كثيرا عن هذا النوع من الرقصات التنكرية. يحكمون مع بعض، ولكن الجميع يخشون إخراج السكاكين الطويلة في أي لحظةٍ، يسود فيها الظلام، ويرتخي خلالها أحد الطرفين. وعلى الرغم من حسناته، يشكل هذا النمط من التعايش ثغرة رئيسة في مسار طويلٍ لا يزال هشّا.