اعتداءات "روتينية" بلا أي اعتراض

اعتداءات "روتينية" بلا أي اعتراض

03 ديسمبر 2016
+ الخط -
وفّرت الأزمة السورية المديدة مناخاً مواتياً لتل أبيب، لكي تتدخل بضرباتٍ خاطفةٍ، وقتما تشاء وأينما تشاء، بدون اعتراضٍ لفظي أو عملياتي من أحد. ولا تمضي بضعة شهور على آخر ضربة، حتى تذكّر تل أبيب الفرقاء الداخليين، ومن يرعاهم، مجدّداً بأنها مُطلقة اليدين، وأن لا شيء يمنعها من الحركة في الأجواء السورية، ومن انتقاء أهدافٍ على الأرض لضربها متى ما رأت فيها خطراً مفترضاً أو مزعوماً عليها. الاعتداء الإسرائيلي أخيراً (الثلاثاء 29 نوفمبر) على ما قالت تل أبيب إنه قافلةٌ لحزب الله متجهة من سورية إلى لبنان، هو تحرّك "روتيني" من فرط تكراره في السنوات الأخيرة، فهذا الحزب مسموح له إدخال الأسلحة والقوات من لبنان إلى سورية، وخوض ما يشاء من معارك هناك، لكن من غير المسموح له إسرائيلياً تخزين مزيدٍ من الأسلحة في لبنان، التي تُحتسب حتى لو لم تُستخدم عنصراً مهماً في المعادلات الاستراتيجية. يحاول الحزب الجمع بين هذا وذاك: نقل الأسلحة وخوض الحرب، فيتدخل الطرف الإسرائيلي.
واقع الأمر أنه، منذ اندلاع الانتفاضة السورية التي انقلبت إلى أزمة، واظب حزب الله على اعتبار معركته في سورية لقمع انتفاضة شعبها أم المعارك، وجهاداً مقدساً، وحرب وجود. وفي حرب الوجود هذه، تم إشهار الوجه الطائفي بصورةٍ صارخة، فيما واظب الحزب على إدارة الظهر للخطر الإسرئيلي، مع المحافظة على ذخيرةٍ خطابيةٍ إعلامية يتم إطلاقها في الهواء ضد إسرائيل. وقد جرت العادة أن تتكتم إسرائيل على الخسائر التي تلحقها بالأهداف المستهدفة، وكأنما لا ترغب بإحراج أحد، أما حزب الله فلا يُظهر بالطبع حجم خسائره أو مكان استهدافه، وقد توقف عن تهديد إسرائيل بالرد على اعتداءاتها، حيث أن سلوك الحزب ينبئ أن التعدّيات الجانبية عليه من تل أبيب لن تشغله عن "التناقض الرئيس" في هذه المرحلة، ولن تثنيه عن خوض المعركة الأم ضد حلب وأهلها مثلاً، بعد أن مهّد الصديق الروسي بمئات الغارات الجوية، وما لا يُحصى من قنابل على أطلال الشهباء، مهّد لتقدم مليشيات حزب الله على الأنقاض وبين جثث المدنيين في الشوارع الداخلية لشرق حلب.
لم يكن الوضع قبل مارس/ آذار 2011 تاريخ نشوب الانتفاضة السورية، ليختلف كثيراً، على صعيد المواجهات التي لا تقع بين النظام وحزب الله من جهة، والاحتلال الاسرائيلي من جهة أخرى، فقد دأب النظام على الالتزام بسياسةٍ ثابتةٍ، تقضي بالامتناع عن الرد على أي اعتداء إسرائيلي، حتى لا تقع مواجهةٌ شبه جدية، يتسع فيها نطاق الأهداف المهددة بما يهدّد وجود النظام نفسه.
ويستذكر المرء مفاوضاتٍ ماراثونية بين طهران والغرب حول الملف النووي الإيراني، وكانت
تتطلب التهدئة على الجبهات من شركاء ايران في المنطقة ووكلائها، وهو ما جعل حرب تموز 2006 آخر الحروب، وآخر المواجهات بين حزب الله وإسرائيل. وقد انتهت المفاوضات بتوقيع الاتفاق النووي في العام 2015، فيما كان حزب الله منغمساً حينها، وما زال، بحربه على السوريين في وطنهم، وحين تقوم إسرائيل باعتداء، وهو ما تفعله دورياً، فذلك لا يجُرّ حزب المقاومة إلى المواجهة الفورية أو القريبة، فللحزب شواغل أخرى، أكثر أهمية وحساسية، وأعلى قيمة وشأناً، من أي مواجهةٍ مع إسرائيل! وقد دأب أمين عام الحزب، حسن نصرالله، على القول إن واقعاً عالمياً جديداً قيد الإنشاء، وانطلاقاً من سورية، مع الإشارة الضمنية إلى مشاركة الحزب النشطة في توليد هذا العالم الجديد.. ويتضح من هذا الاستشراف للحاضر والمستقبل أن المواجهة مع إسرائيل، في الظرف الراهن الممتد والمتطاول، لا أهمية ولا لزوم لها في موازين بناء عالم جديد. فيما يتم ادّخار كل الإمكانات والطاقات، وتعبئة كل الموارد الطبيعية والمادية لضمان انطفاء الانتفاضة السورية، وإسكات أصوات السوريين، من أجل تأبيد وجود النظام الذي يوفّر لإيران ومليشياتها وأدواتها كل التسهيلات. وفي سبيل الاستمرار في التواصل الجغرافي المفتوح بين خطوط حزب الله في سورية ولبنان، وبعيداً عن الحدود الشرعية الرسمية بين البلدين.
خلال ذلك، عملت تل أبيب بالتنسيق مع موسكو، وأطراف أخرى، من أجل عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه على الحدود السورية الفلسطينية، قبل اندلاع الانتفاضة واقتراب قوات المعارضة من بعض نقاط الحدود، وكذلك اقتراب قواتٍ من حزب الله، وأخيراً قوات لكتيبة خالد بن الوليد المبايعة لتنظيم الدولة داعش. وكان ذلك جزءاً من الترتيبات الروسية الإسرائيلية المصاحبة للتدخل الروسي في سورية، والتي من شأنها أن تطمئن تل أبيب، حاضراً ومستقبلاً. وتجري الاتصالات لإعادة القوات الدولية، والعمل في المنطقة العازلة، بعمق 25 كيلومترا. وإذ تضمن هذه الترتيبات أمن الاحتلال الاسرائيلي على المدى الدائم، فإنها تتيح لقوات النظام إعادة
تموضعها في تلك المنطقة، وهو ما سيؤدي، في حال تم الاتفاق عليه بين سائر الأطراف، إلى انسحاب قواتٍ لحزب الله وللمعارضة السورية، واعتبار تلك المنطقة خارج كل نزاعٍ وتنازع. وقد سعى حزب الله، في العامين الماضيين، إلى إظهار نفسه، وإنْ بصورةٍ محدودةٍ ورمزيةٍ، كقوة إقليمية تقف على الحدود في مواجهة إسرائيل. الترتيبات الجارية إذا قيّض لها النجاح، سوف تحرم الحزب (وقوات من الحرس الثوري الإيراني) من هذه الفرصة للاستعراض.
من المفارقات أن الاعتداء الإسرائيلي الجديد جاء بعد أيامٍ من رعاية حزب الله لإنشاء مليشيا جديدة في لبنان، دعيت "سرايا التوحيد" بزعامة السياسي وئام وهاب، الطامح إلى منازعة طلال أرسلان ووليد جنبلاط على الزعامة الدرزية. وقد تحدث وهاب بالمناسبة ان هذه المليشيا ستكون "قوة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان". ويُذكر هنا أن ثمة مليشيا أخرى تحمل اسم "سرايا المقاومة"، يتعهدها حزب الله بالرعاية والتدريب. وبعيداً عن اسمها، فإنها مليشيات تُستخدم لتعزيز النفوذ الداخلي لحزب الله، ومن يدورون في فلكه، ولإرهاب المنافسين والخصوم السياسيين، علاوةً على منازعتها الدولة في إنشاء تشكيلات مسلحة واستخدام السلاح.