من المدعو إلى تعويض غزّة؟

من المدعو إلى تعويض غزّة؟

18 مايو 2024
+ الخط -

يمثّل المؤتمر الدولي للمانحين، الذي احتضنته الكويت الاثنين الماضي (11 مايو/ أيار)، أوّل استجابة إنسانية في هذا المستوى لمواجهة الكارثة التي تحيق بقطاع غزّة نتيجة إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على مواصلة الفتك بالمدنيين، وتدمير مظاهر العمران، وتقويض كلّ الخدمات الأساسية. وقد شاركت مؤسّسات كويتية، ومؤسّسة قطر الخيرية، ومؤسّسة الإغاثة التركية، ومنظّمة الإغاثة الإسلامية، ومؤسّسة الخير في بريطانيا، إضافة إلى جهاتٍ حكوميةٍ ومنظّمات خيرية إنسانية، في المؤتمر، الذي نظّمته الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وقد تعهّدت الجهات المانحة المُشارِكة بتقديم 2.7 مليار دولار لدعم القطاع المنكوب، ولم يفوّت المؤتمر الدعوة إلى التدخّل العاجل لوقف الكارثة المستمرّة، خصوصاً مع التطوّرات في منطقة رفح على الحدود مع مصر.

والراجح أنّ انطلاق هذه المبادرة سوف يُحفّز على مبادراتٍ وجهودٍ إقليمية ودولية، وبالذات من دول شقيقة وصديقة، إذ إنّ حجم الدمار هائل وشامل، وهو ما يتطلّب إعادة بناء مدنٍ وبلداتٍ بصورة كاملة، بما في ذلك الوحدات السكنية، ما يقتضي رصد عشرات المليارات لهذه المُهمّة الشاقة والجليلة. وقد تشمل المبادرات على هذا الصعيد دولاً ضالعة في حرب الإبادة، لتبييض صفحاتها السوداء، وفي مقدمّها الولايات المتحدة، التي تعترف، على لسان رئيسها، أنّ أسلحتها التي زوّدت بها دولة الاحتلال فتكت بالمدنيين، ومع ذلك "لا خط أحمر في العلاقات الأميركية الإسرائيلية"، على ما قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، بمعنى أنّ فظائع تل أبيب، أيّا كانت، مغفورة سلفاً. لكنّ الجهد المطلوب في هذه الآونة يتعين أن يتركّز على وقف الشهية المفتوحة للقتل والتدمير التي تتملّك العصابة الحاكمة في تل أبيب، وبذل كلّ الضغوط الممكنة والواجبة لردع هذا الكيان المارق، ومنعه من مضاعفة الكارثة، التي يسمّيها بنيامين نتنياهو بـ"النصر التام"، إذ إنّ المقصود، كما تدلّ الشواهد من تبجّح هذا الشخص، هو "النصر التام على الحياة والأحياء في القطاع"، علاوة على أنّ إنقاذ المدنيين من عائلات وأفراد هي المُهمّة الأولى والعاجلة التي تتقدّم أيّ مُهمّة أخرى.

تعهّدت الجهات المانحة المُشارِكة بتقديم 2.7 مليار دولار لدعم قطاع غزّة المنكوب

وواقع الحال أنّ فتح ملفّ المِنَح وإعادة البناء والإعمار يثير تساؤلاً في غاية الوجاهة والإلحاح: ما حجم التعويضات الواجبة على مرتكب الإبادة والتطهير العرقي لإعادة بناء ما هدمه هذا المعتدي؟ ففي السابقة الأوكرانية جُمّدت أموال روسية طائلة في بنوك ومؤسّسات مالية غربية، على أنّ تستخدم هذه الأرصدة في إعادة إعمار أوكرانيا في حال رفضت موسكو أداء تعويضاتٍ عادلة لكييف. والواضح أنّ صراعاً مريراً سوف ينشأ بين روسيا ودول غربية في اليوم التالي لنهاية الحرب في حال تمسّكت أوكرانيا، ومعها دول غربية، بمطلب التعويضات. وكما هو الحال في غزّة، فإنّ الأولوية الماثلة في موسكو وكييف هي وقف الحرب على نحوٍ يرضي الطرفين، ولو بعض الرضا. كذلك الأمر في الحرب على غزّة، فالأنظار ستّتجّه إلى الطرف القائم بالتدمير، لدعوته إلى وقف حربه هذه أولاً، ثم مطالبته بتقديم تعويضاتٍ مناسبةٍ لقطاع غزّة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ حياة عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء الذين أزهقت أرواحهم لا تُقدّر بثمن.

وفي منطقتنا، ثمّة سابقة تمثّلت في إنشاء صندوق لمتضرّري الكويت من أموال النفط العراقي وبإشراف الأمم المتحدة، وذلك بعدما اجتاح نظام صدّام حسين البلد "الصغير"، وألحق فيه أضراراً هائلة. أمّا في الحرب الصربية على أقاليم البوسنة والهرسك وكوسوفو، فإنّه لم يُقيّض للضحايا وذويهم الإفادة من أيّ تعويضاتٍ تذكر، غير أنّه عُوّض بفرض عقوبات على المعتدين، تمثّلت في سَوقِ مُجرمي الحرب إلى هيئاتٍ قضائيةٍ دولية. ومعلوم أنّ مداولات الجنائية الدولية تفتح الباب أمام إمكانية توقيف مُجرمي الحرب في تل أبيب، وهو ما أثار ثائرة مهووسين في الكونغرس، وجّهوا تهديدات علنية بالانتقام إلى قضاة "الجنائية الدولية" في حال أصدروا هذه الأوامر. أمّا إدارة جو بايدن، فما انفكّت عن السعي إلى غسل دماء الضحايا ونفي تهمة الإبادة الجماعية عن حلفائهم في تل أبيب، مخافة أن تشمل التهمة الضالعين في هذه الحرب، ممّن يقفون على رأس مؤسّسات الكونغرس والبنتاغون ووزارة الخارجية، وكذلك البيت الأبيض.

السابقة الخطيرة في اقتراف حرب إبادة من دون تبعات، ستحفّز جهات وأطرافاً أخرى في عالمنا على تكرار هذه الفظائع

إنّه لأمرٌ مقيتٌ يجافي كلّ منطق أن تواصل دول أو هيئات في عالمنا التعامل مع شخصٍ مثل نتنياهو على أنّه شخصية مسؤولة أو سياسي "رفيع المستوى" أو رئيس لحكومة، بعدما شنَّ، بصفاقة منقطعة النظير، حملةً دمويةً ضدّ الحياة والأحياء في غزّة، وما زال يرفض وقف حربه المسعورة، وكذلك الحال مع وزير حربه يوآف غالانت، وبقية أركان حكومته، ومجلس حربه. ومن البديهي أن تُطالب الدولة المارقة بوقف الحرب، ثمّ بأداء تعويضات مناسبة لإعادة بناء قطاع غزّة، فيُجمع خبراء على أنّ الكلفة تراوح على الأقل بين أربعين وخمسين مليار دولار. وإذ تتوجّه أنظار كثيرين إلى دول خليجية كي تساهم، عقب إيقاف الحرب، في جهود الإغاثة والإعمار، فممّا لا مراء فيه أنّ هذه الدول ليست بحاجة إلى مثل هذه الدعوات، فلطالما بادرت وساهمت عقوداً في دعم مؤسّسات فلسطين وشعبها، غير أنّ الظرف الحرج الحالي يقضي أن تنضمّ هذه الدول الشقيقة إلى مطالبة الطرف المُعتدي بأن يُؤدّي، هو أولاً، التعويضات الواجبة، وبالتعاون مع شريكه في واشنطن، الذي يؤازره في ارتكاب موبقات حربية ذات نسق إرهابي. أجل، قبل أيّ طرف آخر، فإنّ الطرف القائم بحرب التطهير العرقي هو المُناط به تأدية التعويضات، مستعيناً بالأخ الأكبر في واشنطن، وسوى ذلك، فإنّ هذه السابقة الخطيرة في اقتراف حرب إبادة من دون تبعات سياسية وقانونية، ستحفّز جهات وأطرافاً أخرى في عالمنا على تكرار هذه الفظائع، مستهدية بالسابقة الإسرائيلية في تدمير مدن وبلدات ومُخيّمات بأكملها، ومعها المستشفيات والمدارس والجامعات والمعابد والحدائق والمقابر، ومراكز الأمم المتّحدة.