اختطاف المشاريع واستدعاء (اللامنتمي)

اختطاف المشاريع واستدعاء (اللامنتمي)

18 يناير 2015

ليس مستغرباً أن يعيش الشباب العربي الغربة (Getty)

+ الخط -
يبدو أن حالة الإحباط التي يعيشها شباب الثورات العربية قد مر بها مثقفو المجتمع الأوروبي ومفكروه بين الحربين العالميتين، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة، فصبغت التشاؤمية والسوداوية الأدب والفن، وظهر ما يعرف بـ (أدب الاحتجاج)، والذي حلله كولن ولسون في كتابيه (اللامنتمي) (وما بعد اللامنتمي.. فلسفة المستقبل)، على الرغم من مهاجمة النقاد له ووصفه (بالدجال).. يبدو أنه نجح في تعريف وتحليل حالة عدم الانتماء والغربة التي يعيشها المثقفون والمفكرون في تلك الفترة، وهي أواسط القرن العشرين. وقد أطلق عليها (ضريبة الوعي)، حيث لخص تعريفات (اللامنتمي) التي جمعها من مفكري ذلك العصر وأدبائه، منها (أن اللامنتمي هو الذي يرى أكثر وأعمق من اللازم)، فهل الذي يعيشه الشباب العربي من التشاؤمية التي قد وصل فيها بعضهم إلى نوع من العدمية، هل هو حاله شبيه بما مر به شباب الحرب العالمية الثانية؟
قد تكون حالة الغربة وعدم الانتماء التي يعيشها شباب الربيع العربي نتيجة انكشاف حقائق كانت غائبة عنه، ولأنه لا يمارس الزيف، فقد اختطفت ثورته في وضح النهار، بعد أن دخلت دهاليز السياسيين الذين يجيدون عقد الصفقات تحت الطاولة، ويحترفون بيع المبادئ في بورصة السياسة، من دون أن يرمش لهم جفن، وحيث استمرأت أحزاب العيش في ظل الشمولية، في جو معتم خانق متعفن، ليس فيه هواء نقي، ولا يدخله ضوء الشمس. وفي هذا المناخ غير الصحي، عاشت تلك الأحزاب مثل الفطر السام. لذا، كان من الطبيعي أن يتسمم الوسط السياسي في المنطقة. وبالتالي، كانت أي فكرة تسرق، أو مشروع سياسي كبير يختطف. ومثلاً، فكرة القومية العربية، عندما اختطفتها النظم العسكرية، صفق المنادون بها عندما فرضت بحد السيف على أيدي نظم دكتاتورية، لم يعرفوا عن الفكرة إلا اسمها، ولم تهمهم من قريب أو بعيد وحدة عربية، لكنهم اقتنصوا الفكرة، لأنها تجذب الشعب الذي كان يتطلع لها وما زال. ولكن تلك الدكتاتوريات، ومعها أحزابها، حولت مشروع الوحدة إلى شمولية خانقة سامة. وشوهت، بالتالي، الفكرة، بحيث يحتاج المنادون الحقيقيون بها جهداً جهيداً، حتى تروج بين الشعب من جديد.
كان طبيعياً أن يتحول شعب المنطقة للبحث عن البديل، بعدما جرب حكم اليسار الشمولي، فكان صعود اليمين الديني، والذي نادت أحزابه بدولة القيم والمبادئ. وبالفعل، وصلت أحزاب يمينية إلى سدة الحكم، ولكن، عن طريق الانقلاب، مثلما حدث في السودان، وكررت بدون عظة نهج أحزاب اليسار الشمولي، ووصلت إلى النتيجة المشوهة نفسها، غير أن المشروع اليميني بعد أن وصل إلى الحكم، في عهد ديمقراطيات الربيع العربي، واجه أزمة جمود الوعي والاجتهاد التي مرت بها الأمة ومازالت. وبان الانفصام بين الفكرة والتطبيق والعجز المريع في تطبيق الشعارات المرفوعة، وقبل أن يلتفت مفكرو اليمين الإسلامي لتجسير هذه الهوة، اختطف المشروع الديني على أيدي جماعات وتنظيمات متطرفة، تبرع في صناعة الموت، وتنشر القتل والتقتيل أينما حلت، وقد وجدت موطئ قدم لها في ظل الفراغ الفكري، بعد سقوط المشاريع الكبرى في المنطقة. وأيضا يحتاج دعاة هذا المشروع الديني المعتدلون لجهد جهيد، لتخليصهم من المتطرفين، ثم الدعوة له من جديد.
إذن، اختطفت ثورات الربيع العربي، مثل حال المشاريع الفكرية الكبيرة النابعة من ثقافة المنطقة، ثم سقطت الأقنعة. وها نحن نرى الليبرالي والديمقراطي والثوري والتقدمي واليميني المجدد يجهض حكماً ديمقراطياً، نتاج ثورة شعبية حقيقية، ويضع يده بسلاسة، وبكل أريحية، في يد النظام الدكتاتوري البائد، ليبعثه من جديد، ويتقوقع بهدوء في مناخه المظلم المتعفن، بعد أن أعمته أنوار الحرية، وعجز أن يعيش في هذا الجو الصحي. لذا، ليس مستغرباً أن يعيش الشباب العربي الغربة، لأنه كان صادقاً في ثورته، وبالفعل ينشد التغيير والحرية والعدالة، ولكن خذلته أحزاب اللامعنى التي فقدت المعنى، الهدف، الفائدة، وتعيش الخواء. وهل أصبح حال الشباب كما لخصه كولن ولسون (اللامنتمي، كونه الوحيد الذي يعلم أنه مريض في حضارةٍ لا تعلم أنها مريضة).
4749C577-0308-4FE3-AC19-C56F54DD1078
رجاء بابكر

باحثة سودانية، وكاتبة صحفية، وناشطة في منظمات المجتمع المدني.