إنذار في احتجاج 30 أكتوبر المغربي

إنذار في احتجاج 30 أكتوبر المغربي

19 نوفمبر 2016
+ الخط -
كان حادث مقتل بائع سمك في مدينة الحسيمة في ريف المغرب سيصير عابراً، لو لم يكن محكوماً بسياق مغربي عام عنوانه الكبير، أي توتر العلاقة بين المواطن وعدد من مؤسسات الدولة في السنوات الأخيرة، فهذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها المواطنون في مواجهة سلوكات أو تصرفات متهورة وغير مسؤولة لرجال محسوبين على السلطة، تكون سببا مباشراً، أو غير مباشر، في الإحساس بظلم اجتماعي، يؤدي إلى إنهاء حياة بشرية.
ولربما كانت فظاعة مشهد فرم محسن فكري بآلةٍ لشفط الزبالة، وهو يحاول يائساً حماية أسماكه من الإتلاف، والذي تناقلته المواقع الاجتماعية على نطاق واسع، عاملاً زاد من حرارة هذه الحركة الاحتجاجية الجديدة وقوتها، لكنه حتما لم يكن السبب الوحيد، ولا الرئيسي، الذي حرك مئات الآلاف للخروج في تظاهراتٍ حاشدةٍ في عشرات القرى المغربية، في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في حراكٍ احتجاجيٍّ لم يشهد له المغرب نظيراً، منذ تظاهرات حركة 20 فبراير/ شباط سنة 2011 التي طالبت بتغييراتٍ سياسيةٍ في بنية الحكم، وبتحقيق العدالة الاجتماعية، فقد تجاوزت الشعارات في مدينة الحسيمة نفسها مطالب إجراء تحقيق نزيه، وتقديم المسؤولين عن قتل محسن فكري للمحاسبة، لتواجه بشكل مباشر السياسات الاجتماعية للدولة ومشاريعها التنموية، تحول تاريخ 30 أكتوبر إلى فرصةٍ مواتيةٍ، لمحاكمةٍ شاملة لعيوب الدولة.
بغض النظر عن دقة عبارة "طحن_ مو" (اطحن أمه) التي قد يكون أحد الأمنيين، أو أحد رجال السلطة، قد قالها لإعطاء أمر تشغيل آلة شفط الزبالة من عدمها، والأثر العاطفي الذي يمكن أن يكون تداول هاته العبارة القاسية قد لعبه في حشد التظاهرات، فإن هذا الخروج الجماعي للشارع يؤشر على تحولاتٍ بنيويةٍ في طبيعة العلاقة بين السلطة والشارع المغربي، فقد أثبتت هذه اللحظة الاحتجاجية الجديدة أن هذا الشارع قادر على أخذ زمام المبادرة، والتعبير عن انفعالاته بتلقائيةٍ، عن طريق الفعل الاحتجاجي، من دون أي مركب نقص، ومن دون انتظار ضوء أخضر من الدولة، أو طلب موافقتها، بل شكلت لحظة 30 أكتوبر ثورةً، حتى على تقليدانية الشكل الاحتجاجي المغربي، بتجاوزها التنظيمات السياسية والحقوقية والجمعوية التي كانت عادةً تؤطر هذه الاحتجاجات، أو تدعو إليها. لذلك، لا يمكن اعتبار صرخة الغضب هاته انتصاراً لـ "شهيد السمك" مجرّد نزوة خالية من الدلالات.
وكان لافتاً في المتن الشعاراتي والخطابي الذي حمله الساخطون، سواء الذي لوحظ في أثناء المظاهرات أو الذي تم رصده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أن هذه اللحظة الانفعالية لم
تنظر إلى مقتل محسن فكري على أنه حادث منعزل، أو تجاوز منفرد، بل جزء من البنية والثقافة السلطوية للدولة، وعقيدة إدارتها العلاقة مع المواطنين المغاربة. ويعكس هذا الوعي قراءةً أنضجها الشارع، بمراكمة خيبات أملٍ متتالية من وعود الدولة بالتحقيق في حوادث ومآس اجتماعية مماثلة، أزهقت فيها أرواح بسبب تغول العقل السلطوي للدولة. وفي هذا السياق، يفهم الاتهام المباشر للدولة بالمسؤولية عن مقتل محسن فكري، بصرف النظر عما إذا كانت هذه المسؤولية ماديةً مباشرةً، أو معنوية غير مباشرة. وفي ذلك إحالة واضحة على اهتزاز الثقة بمؤسسات الدولة ومصداقيتها في التفكير الجمعي لشريحةٍ مهمةٍ من المغاربة الذين لم تعد تقنعهم الخطابات الرسمية للدولة التي تجد على أرض الواقع تصرفاتٍ وسلوكاتٍ مناقضة لها تماماً.
كان المتظاهرون يحملون بين أيديهم ورقة صفراء جديدة، يشهرونها في وجه الدولة، ويعلنون، من دون مواربة، عن هشاشة هذا التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع. كان إعلانا صريحا عن الأزمة، ودعوة للدولة/ السلطة لاستيعاب الدروس، ومراجعة ذاتها، وإصلاح نفسها بشكل جذري، عوض المراهنة على عامل الوقت، لامتصاص حالات الغضب والتوترات والانفعالات التي تضعها في مواجهة مع المجتمع. لذلك، لم تخرج الأجهزة الأمنية والمصالح التابعة لوزارة الداخلية عن دائرة استهداف الشعارات التي كانت تسائل، بالأساس، سلطات التصرف التقديرية المفرطة، وغير الخاضعة لأية مراقبةٍ أو مساءلةٍ من الهيئات المنتخبة، فالتطبيع مع تجاوزاتها لم يعد مقبولاً، وليس خاضعا للتفاوض في مغرب 2016.
تكرار مثل هذه الممارسات التي أدت إلى هذا الموت الرخيص، إضافة إلى التاريخ الطويل من الإفلات من العقاب، الذي صار قاعدةً أزليةً، شكل دليلاً على أن الدولة لا تملك أية أجوبةٍ عاقلةٍ للمتغيرات الحاصلة في المجتمع. وبالتالي استغلال فرص مثل هذه التصادمات لإنتاج شرعيةٍ جديدةٍ لها تغرف من المستقبل، ولا تدفن رأسها في تراب زمن ماضوي، وهو ما كان المحتجون المستنكرون لمقتل محسن فكري يعبّرون عنه، من دون تابوهات، وبالسقف الأعلى في الشارع، كما في العالم الافتراضي، أملا في أن تكون هذه الرجّة الجديدة نقطة تحول ضاغطة، تزعزع اليقينيات التي تسكن دماغ السلطة.
ومن دون السقوط في فخ المقارنات الفجة التي سقط فيها جزءٌ من الإعلام الغربي، بقيامه بإسقاطاتٍ لسياقات بلدان أخرى على السياق المغربي، ومقارنة حوادث مشابهة وقعت في هذه البلدان بحادثة محسن فكري، في تجاوز تام لتباينات التاريخ والجغرافيا وتراكمات الصراع بين السلطوية وقوى التغيير في كل بلد، فإن الاحتجاجات أخيراً لم تكن خاليةً من المضمون السياسي، على عكس ما حاول جهاز الدولة ترويجه، وإلا لما كانت هذه الشرارة لتنتج نوعاً من الارتباك، ومسارعة متعجلة لمحاولة احتواء الوضع، لو لم تشعر الدولة بأن في دعوات الاحتجاج مواجهة لرأس الدولة نفسها، وأن الغضب ليس محصوراً في رجل سلطة أو أمن، هو نتاج ثقافةٍ وتربية مؤسسته، فجاء الرد من أعلى سلطةٍ سياسيةٍ، وليس من السلطة الإدارية، أو الأمنية، بأن أرسل الملك وزير الداخلية والوزير المنتدب فيها على عجل إلى الحسيمة، لتعزية عائلة الضحية، والإعلان عن حزمة إجراءات صارمة لمعاقبة المتسببين في الحادثة.
حاول التصريح الرسمي لوزير الداخلية، قبيل الجنازة والتظاهرات، إظهار تفهم الدولة ورأسها مشاعر الغضب والسخط الشعبي الذي خلفه رحيل تاجر السمك، محسن فكري، وعمد إلى تقديم ضماناتٍ يتعهد بها الملك بنفسه، بفتح تحقيق معمق، يشمل الجميع، لكي لا تتكرّر مثل هذه الحوادث. وقال وزير الداخلية: "الملك لا يمكن أن يقبل بأن تقع مثل هذه الحوادث في المغرب"، وهو منطوق يؤشر على حجم شعور النظام السياسي بخطورة مثل هذه الأحداث، وتأثيرها السلبي على صورته، وإدراكاً ضمنياً، ولو غير معلن لتغير التوازنات، وبأن الفصل والتمييز بين ممارسات أفراد تابعين للسلطة والسلطة السياسية بالنسبة إلى مواطن اليوم لم يعد ممكناً.
اضطرت الدولة، على مضض، إلى تقبل ما لم تنظر إليه أبداً بعين القبول، وهو أن يكون الفضاء العام مجالاً للتعبير الحر عن الغضب منها وانتقادها. وفي مشهد يستعيد التظاهرات
الأولى لحركة 20 فبراير/ شباط من سنة 2011، اختفى رجال الأمن من الشوارع، وقبلت الدولة بمرارة أن يجري جلدها في الشارع العام بقسوة. وهذه رسالة سياسية أخرى، نجح المتظاهرون في تمريرها، وهي أن الفضاء العام ملك لهم، ويستطيعون استعادته وتحريره، متى شعروا بالحاجة إلى ذلك. وما دامت "الحكرة" (الاحتقار والظلم الاجتماعي) وغياب الكرامة والعدالة الاجتماعية والاستبداد الأمني والسياسي حاضراً، وما دامت مؤسسات الدولة قاصرةً عن فهم هذه الحاجة المجتمعية الملحة إلى دولة اجتماعية عادلة تخرج من قمقم السلطوية، فإن شرعية الشارع ممكنة الاستحضار في أية لحظة.
وهذه معادلة لا يبدو أن الدولة مستعدةٌ للتسليم بها، وهو ما يفسر، على ما يبدو، حالة الإسهال التواصلية المضادة التي سجلناها عبر القنوات التواصلية الرسمية وغير الرسمية للدولة في اليوم الموالي للاحتجاج، سواء في الدعوة إلى تجنب "الفتنة"، وحماية البلد من التحول إلى سورية أو ليبيا جديدة، وعن وجود مخططات تخريبية في المغرب. وقد مرت هذه التحذيرات في صورة رسائل مجهولة، توصل بها مواطنون على هواتفهم، أو عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، أو من خلال محاولة وسائل إعلام مقربة من السلطة، إخراج حادث مقتل محسن فكري من سياقه العام، وإظهاره كما لو أنه مجرد جريمة حق عام، تحصل يومياً في البلد، أو من خلال إعادة إحياء كليشيهات، من قبيل النزعات الانفصالية لدى بعض سكان الريف، أو إمكانية استغلال تنظيمات سياسية راديكالية معارضة الاحتجاجات، كما عبر عنه تصريح جديد لوزير الداخلية، عندما وصف دعاة الاستمرار في الاحتجاج بأنهم أشخاص معروفون، في تلميح إلى أنهم "محترفو تظاهر"، وهو خطابٌ يعكس جزءاً من مأزق الدولة في فهم التحولات ومسايرتها، ورهانا متجدّداً وخاطئاً على الزمن، لتجاوز لحظة التوتر الراهنة، قبل عودة سريعة إلى فرض أمر واقع. ولا ترشح عن مثل هذا الخطاب الجديد- القديم أية بوادر للإقرار بالأخطاء، وأي استعداد لتقديم التنازلات اللازمة لنشوء علاقة تعاقدٍ جديد بينها وبين المجتمع.
C35551C2-F0E5-4DFB-8686-C72F5A857811
C35551C2-F0E5-4DFB-8686-C72F5A857811
عماد استيتو

كاتب وإعلامي مغربي

عماد استيتو