إلى إعادة بناء منظمة التحرير فوراً

إلى إعادة بناء منظمة التحرير فوراً

31 مايو 2020
+ الخط -
كيف للشعب الفلسطيني أن ينتظر "الفرج" ممن ساقه إلى الخراب، وبعقلية سياسية مضجرة، ولا سيما أن غالبية النخب الفلسطينية لم تتجاوز معوقات "الرطانة اللغوية" التي تسيطر على مجمل الخطاب الفلسطيني الذي لا جديد جدياً فيه، وتغرق في مواجهات "آنية" لا تخرج عن مستوى "ردّات الفعل" لكل حدث سياسي، يُواجَه، كالعادة، بالخطابات النظرية عينها "الطنانة الرنانة" في لغو عقيم، من غير أي خطوة عملية استراتيجية لمواجهة شاملة (وليس بالتقسيط) مع الكيان الصهيوني تعيد "الخطاب" إلى جذور الصراع الأولى التي بدأت عملياً باحتلال الجزء الأكبر من فلسطين (70% من الأرض التاريخية) عام 1948، وأكملت احتلالها الكامل عام 1967، فضلاً عن احتلال أراضٍ عربية أخرى، هي سيناء والجولان.
المواجهة على طريقة "خبط عشواء" مهما تبدُ مهمة لبعضهم، فهي لا تخرج عن مجرّد قناع لتغطية العجز والفشل، فشيء من هنا وآخر من هناك، واصل الفلسطينيون السير في مسار من التخبط، كان جلياً مذ طرح "برنامج النقاط العشر" في المؤتمر العام لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، الذي شكل تراجعاً غير مفهوم أو مبرّر عن لبّ القضية التي يناضل الفلسطينيون جميعهم من أجلها، وبات التآكل المتدرّج بالرواية التاريخية الفلسطينية سيد التسويات، فتحرير فلسطين، كل فلسطين، هو الشعار الجامع الذي يمثل المصالح العليا الجامعة لكل الفلسطينيين، وفي مقدمتهم اللاجئون وأبناء الشعب ممن بقوا في الأراضي التي احتلت في 1948، بل ومصدر وحدتهم. وشكل هذا التراجع بداية لظواهر الانقسام في المجتمع الفلسطيني، نشأت على إثره "جبهة رفض" لهذا البرنامج قابلته "جبهة قبول".
ليست المقالة في معرض استدراج كل محطات التخبط التي لم تبدأ فعلياً بعد النكبة، بل سبقتها في ثورتي 1936 و1937 (وربما ما قبلهما)، بعد تكشف المشروع الصهيوني في مؤتمر بازل 
قبل قرن ونيف. وعلى الرغم من تخلل جميع التجارب النضالية محطات ناصعة ومشرّفة في تاريخ الفلسطينيين، وعلى الرغم من ظواهر الفساد المالي والأخلاقي والمحسوبيات و"مرض التنافس على الزعامة بعقلياتها العشائرية والذكورية والفكرية". ولم يُتعلَّم شيء من تجربة التجاوزات التي اقتُرفَت في الأردن ولبنان.
ساهمت تلك التخبطات، وغيرها كثير، في ما وصل إليه الفلسطينيون من ضياع وهزائم وتهميش وصل إلى حدود "العزلة الشاملة"، دفعت إعلاميين خليجيين، أخيراً، ممن لا يعتد بتمثيلهم الرأي العام الخليجي، فضلاً عن دراما تشجع على "كراهية الفلسطينيين"، وصلت إلى مستوى من إسفاف، غير مسبوق، دفعت أصواتاً فلسطينية "غير مسؤولة" إلى الرد بالمثل تحت ضغط الانفعال والاستفزاز والإحساس بغبن ترك الفلسطينيين في "عزلة مرعبة" لم يختبروها، حتى في أشد الأوقات صعوبةً، بما فيها زمن النكبة. وقد شكلت هذه الأصوات الإعلامية والبرامج التلفزيونية ما يشبه الغطاء أو حملة لترويج "خطاب التخلي"، كما أسماه الكاتب الفلسطيني خالد الحروب، من غير أن يوكل إليهم بالضرورة بالتغطية أو الترويج. خطاب التخلي الذي أنتجه التقاطع "الفج" بين إسرائيل والولايات المتحدة مع إيران في إضعاف القضية الفلسطينية ودول الخليج والمنطقة. وإلا فكيف نفسر سياسات إيران ووكلائها في سورية ولبنان واليمن وغزة، وتهديداتها لدول الخليج خصوصاً. سياسات خدمت المشروع الصهيوني الإمبريالي في المنطقة، وألحقت أكبر ضرر في كبريات الدول العربية، واستغلته الولايات المتحدة وإسرائيل بإثارة الفزع لدى السعودية والإمارات والبحرين بتعظيم الخطر الإيراني على دول الخليج، وهو فعلاً قائم، وتخريب العلاقات فيما بينها، ما حرف اتجاه البوصلة في المنطقة عن خطر إسرائيل بوصفها العدو الرئيسي لكل العرب، مع ما صاحبه ذلك من ابتزاز سياسي ومالي وأمني ضد السعودية تحديداً، وهو ما ينسجم بالتحليل مع "خطاب التخلي"، ونهج التطبيع الذي جاء في هذا السياق.
ماذا فعل الفلسطينيون لجهة تحصين أنفسهم من تداعيات المشروع الإيراني؟ لا شيء. وانجرف جزء منهم وراء تورّط حركتي حماس والجهاد الإسلامي خصوصاً في المشروع الإيراني تحت شعار "محور المقاومة والممانعة" المزعوم. ولم يفصح الفلسطينيون جهراً برفضهم لهذا "المشروع/ المحور"، والتصدي له بوصفه يهدد المنطقة العربية، ولا سيما دول الخليج "بحكم الجوار المباشر"، ويشوّه وجه الصراع مع العدو الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، لكونه صراعاً عربياً إسرائيلياً، وليس فلسطينياً إسرائيلياً فحسب. وهذا ما أدّى، في ما أدّاه، إلى تداعيات تلك "العزلة الخانقة"، وترك الفلسطينيين وحدهم تحت أعباء وخسائر لم يشهدوا بمثيل لها في تاريخهم الحديث.
الانقسام وغياب المرجعية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، أو تهميشها، هما السبب الرئيس 
وراء تخبط الخطاب الفلسطيني، وكذلك ضبابية الرؤية الوطنية الشاملة في مواصلة النضال، بالتوازي مع إعادة الاعتبار للرواية التاريخية الفلسطينية، وهو ما يتطلب إعادة الاعتبار لمكانة المنظمة، بإعادة بنائها على أسس ديمقراطية جدّية، وانتخاب نخبتها السياسية المتمثلة بالمجلس الوطني، الذي ستنبثق منه قيادة جديدة يختارها الفلسطينيون خارج سياق "التعيين"، لتتمكّن من لجم التدهور الحاصل الذي يتهدّد "الوجود الفلسطيني"، ومعه العربي. ولهذا، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية حاجة ملحّة وعاجلة، تمثل "الفعل"، وليس "رد الفعل" كي يعود العمل الفلسطيني إلى جادّة الصواب، مظلة جامعة لخطابٍ جامع يعيد تصحيح العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، والفلسطينية العربية، ولا سيما مع ما يحمله فيروس كوفيد 19 من تداعيات مدمرة على اقتصاديات الدول، وتهدد اقتصاديات الدول العربية، ولا سيما الخليجية، بوصفها "خط الدفاع الأخير". تداعيات قد تبدل وجهة السياسات والتحالفات الدولية التي لا نعرف إن كانت ستعمل لمصلحة العرب أو ضدهم بمن فيهم الشعب الفلسطيني، خطوة تتجاوز الذعر الذي يسببه ضم إسرائيل أراضي فلسطينية إليها، وتتطلب أيضاً أكبر درجات الاستعداد للأسوأ، أو تحويل ما يمرّ به العالم (ونحن منه) في مواجهة "كورونا" إلى فرصة "للتأمل" بواقع حال المنطقة تعيد الجميع، حكومات وشعوباً، إلى صوابها برؤية "المشترك" و"حقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة" التي تجمعنا وفق رؤية وطنية فلسطينية شاملة، ضمن رؤية عربية أشمل وأوسع، وهذا لا يستقيم من غير البدء بخطواتٍ عملية لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، فتكون المنظمة عقلاً جامعاً يفكر ويدبر وينظّر في الأولويات وتوازي النضالات، ولرسم خريطة طريق جديدة، واستعادة "روح التضامن العربي" خطوة أولى لمواجهة ما قد تكون حرباً وجودية على الجميع في القادم من الأيام.

دلالات