ويقول عارفون بالمسار المهني للرجل، الذي عُرف في المغرب بنظافة كفّه، إنّ صناعة الأحذية هي التي أدخلته إلى القصر من أوسع أبوابه، من خلال تعامله التجاري مع البلاط، إذ أعجب الملك الراحل، الحسن الثاني، بدقّة منتجات شركة جطو وجودتها، قبل أن ترتفع معاملاته التجارية ويتحوّل صاحبها إلى فاعل اقتصادي مهم.
ولاحقاً عيّن الملك الراحل جطو وزيراً للتجارة الخارجية سنة 1994، ثمّ أصبح وزيراً للمالية عام 1997، قبل أن يغادر الحكومة ويعود إلى أعماله التجارية. غير أنه عاد من بوابة الملك الحالي محمد السادس، الذي عيّنه في عام 2001 مديراً لمؤسسة "الفوسفاط"، إحدى أكبر الشركات في المغرب وأفريقيا.
وشكّلت سنة 2002 منعطفاً مفصلياً في حياة جطو ـ الذي عرف بكونه "نظيف الكف"، من دون أن تكون له تجربة سياسية كبيرة، فهو رجل تكنوقراطي بالأساس ـ وذلك عندما اختاره العاهل المغربي ليترأس الحكومة، منهياً حقبة "حكومة التناوب" التي قادها حزب "الاتحاد الاشتراكي" بزعامة الزعيم اليساري الشهير، عبد الرحمن اليوسفي.
وبعد أن قضت حكومته ولايتها الكاملة خلال خمس سنوات، سلّم المشعل لخلفه عباس الفاسي، زعيم "حزب الاستقلال"، ليختفي بعدها عن المشهد الحكومي و"السياسي" خمس سنوات أخرى، قبل أن يلجأ إليه القصر الملكي من جديد طلباً لخدماته، فتم تعيينه في 2012 رئيساً للمجلس الأعلى للحسابات، وهو المنصب الذي يشغله منذ ذلك العام إلى اليوم.
في بداية قيادته للمجلس الأعلى للحسابات، المؤسسة التي تعدّ أعلى هيئة حكومية رقابية على مالية القطاعات العمومية المختلفة، كانت التقارير تصدر دوريا بشأن اختلالات مالية هنا وهناك، لكن من دون أن تثير سجالاً كبيراً، أو حتى تثير اهتمام الرأي العام في البلاد.
ولم يصعد نجم جطو بالخصوص، إبان رئاسته للمجلس الأعلى للحسابات، سوى عند تأكيد أعلى سلطة في المملكة بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، تفعيلاً للفصل الأول من الدستور، الذي ينصّ على أنّ "النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلطات، وتوازنها وتعاونها، وعلى الديمقراطية والتشاركية، ومبادئ الحوكمة الجيّدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة".
وكانت خطابات الملك محمد السادس التي شدّد فيها على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتبر من خلالها أن المسؤولين المفرّطين في أداء مهامهم سوف يحاسبون، بالإضافة إلى تكليفه شخصياً رئيس المجلس الأعلى للحسابات إنجاز تقارير بشأن تقصير تنفيذ بعض المشاريع التي أشرف عليها، كافية ليصبح جطو "سيفاً" مسلّطاً على رقاب كبار المسؤولين في البلاد.
وأمر الملك المغربي جطو في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من عام 2017 الماضي، بالتحقيق في عدم تنفيذ مشروع "الحسيمة منارة المتوسط" الذي وجّه بانطلاقه في عام 2015، وهو ما كان أدى إلى احتقان في منطقة الريف انطلقت على أثره احتجاجات اجتماعية عارمة، تسببت في مواجهات واعتقالات لنشطاء وأحكام بالسجن على بعضهم.
واستطاع جطو أن يزيد من "ثقة" القصر فيه من خلال تقريره المدوي الذي تضمن تدقيقاً وتشخيصاً للاختلالات التي شكّلت حجرة عثرة في عدم تنفيذ "المشروع الملكي" في الحسيمة، كما حدّد مسؤولي القطاعات عن هذه التعثرات، وهو ما مهّد الطريق أمام الملك ليعلن عن حزمة قرارات حاسمة باتت تعرف في البلاد بـ"الزلزال السياسي".
وكان من ثمرات تقرير جطو الساخن إعفاء عدد من وزراء الحكومة الحالية وعدد من رجالات السلطة، وأيضاً سحب ثقة الملك من وزراء سابقين وعدم تكليفهم بأي منصب رسمي مستقبلاً، وهو ما شكّل حدثاً بارزاً غير مسبوق من حيث عدد الوزراء المعفيين في تاريخ المغرب المستقل.
ويُحسب لـ"مهندس الزلزال السياسي" في المغرب، أنه تمكّن من إلقاء حجرة كبيرة في بركة الماء الراكدة للحياة السياسية في البلاد. فبعد أن كان المشهد يتسم بنوع من الجمود والترقّب، لم يخلخله سوى "حراك الريف"، جاء تقرير جطو ليضع النقاط على الحروف، ويعمل على التكريس الفعلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ويبدو أنّ حساب الوزراء والمسؤولين الكبار الذين أعفاهم العاهل المغربي كان قاسياً بسبب ما تضمنه تقرير جطو، وهو ما جعل كل تحرّك للقضاة الذين يعملون تحت إمرة هذا الأخير، يثير الفزع وسط المسؤولين بمختلف رتبهم ودرجاتهم، ويتحسسون رؤوسهم خشية غضبة ملكية أو إقالة مفاجئة.
ولم يكن تقرير جطو بشأن تعثّر "مشروع الحسيمة" هو وحده الذي زلزل سياسيي البلاد، بل أيضاً تقريره الأخير الذي يعود إلى أغسطس/آب الفائت، والذي سجّل مجموعة من الاختلالات المالية في تسيير قطاعات وزارية، وهو التقرير الذي يقول مراقبون إنّه كان سبباً من بين أسباب أخرى في إعفاء وزير المالية والاقتصاد محمد بوسعيد.
وهكذا، فإنّ إدريس جطو بات رقماً صعباً في التحوّلات السياسية والحكومية في البلاد، رغم أنه ليس "رجلاً سياسياً"، ولا ينتمي إلى أي حزب سياسي، بقدر ما قاده مساره المهني المتألّق لأن يكون "رجل العهد الجديد" كما يسمّيه البعض، أو رجل "ثقة القصر الملكي"، كما يحلو لآخرين نعته.