أن تغنّي شعوبٌ من العشّاق

أن تغنّي شعوبٌ من العشّاق

20 فبراير 2014
أُنسي الحاج: غناء الصوت العاري
+ الخط -

من التحدّيات التي واجهت قصيدة النثر العربية، غناؤها. فالتفعيلة قصيدة موزونة إيقاعُها واضح يُسهِّل تلحينها، بينما مصدر الإيقاع الأساس لقصيدة النثر، هو الفكرة العارية المجرّدة من صخب الإيقاعات الخارجية، وقدرتها على التكثيف والتصويب لتحقّق شعريتها، من دون عوامل جذب عروضية تقليدية.

قصائد الشاعر أنسي الحاج (1937-2014) استطاعت أن تواجه القوالب اللحنية الجاهزة، وتنساب بطريقة يكون النصّ فيها مصدر تصميم اللحن الذي يمكن أن نسمّيه لحناً نثرياً أيضاً، يخلو من الزّخم التطريبي الفائض، ويسير مع الكلمات حسب رغبتِها.

من قصيدة أنسي "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"، غنّى الموسيقي السوري، عابد عازرية مقاطع مُنتقاة تحت عنوان "سوف يكون". اسمُ الأغنية مفارقة شعرية، يتأتّى إيقاعُها من الفكرة نفسها، أي الشاعر الحشود المتعدِّد في واحدٍ، المتصوّف الكثير والمُختزَل. اختار عازرية ما يتّسقُ من الكلمات مع طبيعة ألحانه التي تميل الى الحسّ الصوفي، ولكل مقطع خاتمته المؤثّرة التي تستوقف السّامع، ومنها: "انقلوني إلى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي/ انقلوني لترى أنني قديمٌ وجديد".

ومن القصيدة نفسِها غنّت الفنانة، ماجدة الرومي، مقاطع أخرى، بألحان جوزيف خليفة، مستبقية على العنوان نفسه: "أنا شعوبٌ من العشّاق". لم يخلُ لحن خليفة من الإيقاع الشرقي السريع، لكنه كان مُنسجماً مع المقطع الذي احتواه لطبيعتِه العاطفية إلى حدّ ما: "رُدَّ عليّ الحبَّ حبيبي/حتى لا أجدَ إعصاراً يطرده ولا سيفاً". وقد تطلّبت الكلمات هنا إيقاعاً مختلفاً يجاريها، لأنّها متخفّفة من النزعة الصوفية التي ظهرت في مقاطع عازرية، وتبدو أكثر حسيّةً، خصوصاً إذا نظرنا في العبارات المُستخدمة كـ"حبيبي" و"إعصار".

ومن قصيدة "الرسولة بشعرِها الطويل حتى الينابيع"، غنّت اللبنانية، هبة القواس، سطوراً سالت متدفّقةً مع اللحن الأوبرالي الذي ألّفتهُ وأدّته على قالب "السوبرانو" الذي أبرز الطبقة الأعلى في مساحتها الصوتية.

أما اللبنانية، جاهدة وهبة، التي غنت "لندع تلاقينا"، فاستطاعت أن تُلحن الكلمات بمقامٍ "السيكاه" الشرقي، بأداءٍ طربي طوّعته ليتناسبَ مع القصيدة النثرية. الآلة الوحيدة التي رافقتها فيه هي الدف، آلة إيقاعية، بينما صوتُها كان الآلة الأخرى. محققة ما يسمّى في الغناء بـ"الصوت العاري". ولعلّ هذا ما احتاجته القصيدة لخفّتها وكثافتِها في آن واحد: "لندع تلاقينا/ يعمّق سيرنا/ واحدنا في الآخر/ كُلَّ مداه/ قبل أن يأخذنا فراقُنا/ إلى التلاقي/عبر من سننسى بعضنا/ أنا وأنتَ/ في أحضانه".

وهنا تتجلّى قدرة أُنسي على التنويع في القصيدة نفسها بين الحسي والصوفي لتكون أكثر ثراءً وعطاء، مما يُعطي الموسيقى مساحات متعدّدة تتناول من خلالها الشّعر بأسلوبيّات وقوالب لحنية وإيقاعية كثيرة.

 

المساهمون