أم الدنيا واختفاء مقاهيها

أم الدنيا واختفاء مقاهيها

20 مايو 2015
أحمد فريد، "هجرة ثقافية"، 2014
+ الخط -

يُمنع التدخين في مقهى "ريش" الثقافي، لكن رائحة السجائر تملأ المكان، ويملؤه معها وجه النادل العابس، لتعرف بعد ذلك أن الدخول ليس لأي شخص هنا، بل تحدده المظاهر الخارجية، وفكرة سريعة يأخذها مدير الصالة عن الزائر القادم، تعتمد أساساً على مزاج الأول، وحظّ الأخير.

لا شك في أن العديد من المقاهي المصرية استمدت شهرتها التاريخية، إثر علاقة ربطت بينها وبين مثقفين دخلوها بحثاً عن سكينة ما، بعيداً عن جدران الغرف المغلقة وغمامة البيوت.

أسماء شهيرة كتبت أعمالها على قارعة المقهى؛ "حرافيش" نجيب محفوظ، وقصائد أمل دنقل، وأشعار أحمد رامي، ومسلسلات أسامة أنور عكاشة وغيرهم كُثر، فكان لارتياد الأدباء والمثقفين المصريين مقاهي وسط القاهرة، أثر على شهرة هذه الأمكنة، وأصبح السياح والأدباء العرب لدى زيارة القاهرة يقصدونها.

ومع الوقت، توقفت هذه الأماكن نفسها عن أن تكون مقصداً للمثقفين من الأجيال الجديدة، وصار أصحاب هذه المقاهي "يسترزقون" من سمعة غابرة، ويبحثون في أرشيفهم عن صور الأدباء الراحلين ليعلقوها على الجدار، كما لو كانت إعلاناً لموقع سياحي جذاب. وباستثناء هذه الصور المعلقة، غابت عن المكان جميع مظاهر الثقافة.

عاد الحديث في الأسابيع الأخيرة عن "ريش" بعد رحيل آخر مُلّاك المقهى، وفتح باب النقاش حول علاقة المثقف بالمقهى، وتغيُر طبيعة هذا المكان مع الزمن. فهذه المقاهي الآن تغيب عنها أساسيات العلاقة الإنسانية بين أصحابها أو القائمين عليها، مع المثقف القادم إليهم بحمولته الإبداعية الثقيلة، المحتاجة إلى ذاك المناخ المتخيل لديه من أجل إفراغها، ليفاجأ بأن الجو الثقافي الذي كان يحلم به، أصبح مجرد فنجان قهوة بارد يُقدّم على عجل كأنه يقول: ارحل.

فمقاهي "غروبي" و"ريش" و"الفيشاوي" و"الغريون" التي كانت جزءاً من الحركة الثقافية والسياسية السريّة في مصر يوماً من الأيام، ليست الآن سوى أشباح لتلك الأيام الخوالي، بعد أن تحولت إلى مشاريع اقتصادية بحتة لا نبالغ إن قلنا إن بعضها يحتقر الثقافة وأهلها، ربما تجذب بطابعها التاريخي المثقف العربي الزائر أو السائح الأجنبي المستشرق.

لا يمكن على أي حال، وصف أي مقهى بأنه "ثقافي" في القاهرة اليوم، سواء أكان هذا المكان قديماً أو حديثاً؛ الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية جعلت من المقاهي مجرد مشاريع تجارية. وتلاشى الفرق الثقافي بين الشعبي والنخبوي والخاص والعام، بعد أن أصبحت العلاقة بين مرتاد المقهى والمكان نفسه علاقة تجارية بحتة. والمقاهي الثقافية التي كان يجد فيها المثقف - صاحب الدخل المحدود عادة - متنفساً أصبحت أسعارها سياحية طاردة له.

اشرب قهوتك على عجل، وانتبه إلى ساعة الحائط المعلقة في مكان يراه الجميع داخل المقهى، فالطاولة التي تجلس عليها لها مساران، إما ألا تفرغ من طلباتها، أو أن تفرغ بسرعة من جالسيها.

دلالات

المساهمون