ألم العِبارة في رثاء شهداء العَبّارة

ألم العِبارة في رثاء شهداء العَبّارة

24 مارس 2019
+ الخط -
لم يكن يخطر على بالي يوماً أن أرى المدن خالية من سكانها، خاوية على عروشها، يهجرها أهلها على حين غفلة من الحياة، مشهدٌ مهيبٌ لا يزال عالقاً في ذاكرتي البائسة التي تشكلت من حروب وفواجع وكوارث مستمرة ولزحمتها قد يُنسى بعضها لوقت، إلى أن تحين مصيبة أخرى تستدعي الفاجعة الماضية.

تغرق الناس عادة بالحروب والأزمات في العالم، بين عقدين أو ثلاثة من الزمن، ما يجعل الكوارث مفزعة ومقلقة، إلا في بلادنا العربية البائسة، ما إن تنتهي فاجعة إلا وتحلّ بعدها فاجعةٌ أكبر منها في الألم والجرح، وكأننا لعمر الله للفواجع أهل وأحباب.

لا أدري كيف للمدن أن تبدو جميلة بلا أهلها، ولا للبيوت بلا سكانها، ولا للمدارس بلا طلابها، ولا للشوارع بلا سياراتها، لكن للأسف في مدننا القديمة المليئة بالألم والبؤس يحلّ الموتُ ضيفاً علينا بكرة وعشياً، يخطف أرواح العشرات ويمضي، وننظر إلى الفاجعة ونقول سيرحل من هنا، فقد أخذ الكثير هذه المرة، لكن سرعان ما يعاود الكرّة ليخطف أكثر وأكثر.

شرّيرٌ هذا الموت، يتصالح مع أناس فيعطيهم فرصة الحياة، ويأخذهم منها بصورة رائعة، ولكنه معنا لم يكن منصفاً، يأخذنا من الحياة، ونحن في بداية هربنا منه بحثاً عن الحياة، بل يأتي إلينا ليأخذنا من الفرحة التي تغمرنا.

على سبيل الخيال، ممكن للإنسان أن يتصور رحيل عائلة بأكملها في حادث مؤسف، لكن أن يرحل الناس جماعات عن الحياة، فهذا ما لم نكن نتصوره يوماً ما، وبعد كل فاجعة يصبح كل شيء قريباً تصوره، ففي معارك تحرير الموصل، سمعنا أن عوائل بأكملها طمرت تحت منازلها، وأن آخرين لم يعثروا عليهم إلى يومنا هذا.

الصورة تبدو واضحة؛ حرب وقتال، وسقوط القتلى واردٌ في كل الحروب التي تحلُ على البشرية، فالجميع يبحث عن انتصار على أكوام اللحوم البشرية المتناثرة، وفي الأخير ينتصر الأكثر بطشاً وقتلاً وفتكاً بالبشر، وقد دفعنا ضريبة الحرب أربعين ألف إنسان. يبدو الرقمُ بسيطاً، وليس كبيراً علينا، فنحن العراقيين كتب علينا الموت منذ عقود، فمن ينجُ من الحرب، فلن ينجو من الموت بالمففخات أو القتل لأسباب لا يعلم عنها أحد، ومن نجى مما سبق فلن ينفك عن مصيبة تحدثُ تلِمُ به وبمن معه.


انتهت الحرب في الموصل وانتصرت إرادة الحياة كما كنّا نتوقع، عندما عدتُ إلى المدينة، كان يغمر أمي الفرح، قالت يا ولدي: لقد زال شبح الخوف لقد عادتِ الموصل آمنة، وها نحن نشعر بأمان لم نشعر به من قبل، لقد كنتُ فرحاً لكلامها، لكني لم أكن مطمئناً إطلاقاً.

وجدتُ أن الشبح الذي يطاردنا منذ عشر سنوات، ما زال موجوداً إلى الآن يطاردني، ولكني تظاهرتُ بالفرح، لعل نبوءة أمي تكون أصدق حالاً من نبوءتي، ولكن مع أول لحظات الحرية من تنظيم متطرف ملأ المدينة قتلاً وظلماً وتشريداً وتنكيداً، عاد الشبحُ من جديد، فانفجار يتبعه آخر، وكأنهم لم يشبعوا من دماء الناس لثلاث سنوات، ليأتوا إليها من جديد بالموت.

يمضي الناس إلى الحياة، متحاملين على جراحهم التي أثخنتهم بها الحرب، بجهودهم الذاتية أعادوا ما استطاعوا أن يعيدوه وضربوا أروع الأمثلة في حب الحياة، ولكن رغبتنا شيء ورغبة الموت مختلفة عنا تماماً، ولعل جشع الإنسان وطمعه ورغبته باكتناز المال، هي محطةٌ أخرى لحصاد أرواح البشر. مضينا إلى الحياة، ولكنها لم تقبل إلينا ولم تستقبلنا، وأحالتنا للموت!

صباح الخميس الماضي كان من المقرر أن ننام إلى وقتٍ متأخر، فهو عطلةٌ يجلس الناس في منازلهم، يتناولون الإفطار معاً، ويشاهدون التلفاز، إذا كانتِ الكهرباء قد عطفت عليهم وجاءتهم مبكرة، ولكن الربيع أقبل من جديد والأجواء تبدو ملائمة كثيرة للترفيه، لأن صيف العراق لا يحلو كثيراً للترفيه، فهو صيفٌ حارٌّ جداً. ومع أول بدايات المساء بعد الثانية عشرة ظهراً، توجه الناس يحملون أمتعتهم صوب دجلة الخير في ما أخبروا عنه، أو كما قال شاعر العرب الأكبر الجواهري: "يا دجلة الخير" مخاطباً له في ما مضى، يحملون أنفسهم على الحياة رغم كل الملمات، التي حلّت بهم، بدأتِ الأم تجهّز أولادها، وقام الأب يرتدي ملابسه، وكالعادة تتأخر أم البيت بتجهيز نفسها، لأنها تبقى آخر من يرتدي ملابس الطلعة من المنزل، ويأخذ الأب بالصياح عليهم لقد تأخرنا وسيفوتنا الوقت، وستمضي الشمس مسرعة، ويحلّ المساء ويكون الجوُّ بارداً على الأولاد.. ليته تأخر وليت السيارةَ ما تحركت، لقد وصلوا إلى متنفسهم الوحيد في المدينة المنكوبة.

لقد وصلنا إلى الغابات وإذا بصوت الطفل الصغير بلهجته المحكية: "الجو يجنن اليوم بابا"، وإذا بالأم ملتفتة إليهم: "صيروا عقال وحبابين حتى نطلعكم كل مرة".
لم تكن تعلم أن هذه النزهة الأخيرة لها.. البنت: "ماما هو كنتم تطلعون على الغابات من كنتم صغار".
ترد الأم: "والله يا بنتي أنتم ما غشعتم شيء كلها حروب وحروب، ونحن قبلكم لحقنا شوية عالحياة، وكنا نروح للسد والشمال وكانت الموصل أحلى بكثيغ من هسا".
الأم متأففة دامعة بقلبها ومتحسرة على أولادها الذين قضوا زهرة طفولتهم بالحروب: "بس يلا منتظرتكم أيام حلوي وجميلة بالأيام الجاية وإن شاء الله تعيشون حياة أحلى".. ربما كانت صادقة فحياتهم القادمة في جنان الله، خيرٌ من حياة العراقي البائسة على الدنيا.

وصلنا إلى الغابات المتواضعة بكل شيء فيها من المقاهي إلى المطاعم إلى الأرصفة، هي غابات بدائيةٌ جداً، ولكننا راضون بها على بساطتها، وعدم ترتيبها، أقلها تهبُ لنا جواً جميلاً في أيام الجمع والأعياد.
الأبُ لأولاده: "هسه وصلنا الغابات أش رايكم ننزل بالكازينو".
الطفل الصغير: "بابا نريد ننزل للجزيرة وأنت وعدتنا ترى، والله أزعل منك".
الأبُ مرة ثانية: "ول ابني عتغشع الماي عالي اليوم ليش ما نخليها عالمرة الجاية واليوم نقعد بالكازينو نأكل شوي ونشرب ونجرز حب شمس وتلعب انت وخواتك بالديديات".
الابنُ مرة ثانية: "بابا حبيبي الله يخليك نريد نعبر عالجزيرة ونركب العبارة، ونقعد هنوك أنا وانت وماما وخواتي ونلعب، وانتم تأخذون لنا صور".
الأبُ بعد إلحاحٍ من ابنه الصغير: "صار حبيبي خل نشوف ساحة سيارات نخلي السيارة ونطلع للجزيرة وما يصيغ خاطرك الا طيب".

ركن الأبُ سيارته وتوجهوا صوب الجزيرة السياحية.
الأب متحدثاً: "الله الناس كلها طالعة اليوم ومتونسي والجو ربيع".
الأم قائلة: "الله يديم الأفراح يا ربي على هذه الناس".. وقفتِ العائلة جميعها في الطابور لحجز تذاكر العبور، وبعد انتظار جاء دورهم لأخذ تذكرة لكل أفراد العائلة، وبعدما وصلوا إلى مكان العبور.

الأب: "أولادي، ديروا بالكم على بعضكم الناس مزدحمة، وما نغيد أحد يضيع منكم وتطلع نفسنا من الطلعة ونضوج".. ولم يكن يعلم أنها النهاية المؤلمة لهم جميعاً.

الأم للأب: "يا غجال صلِ عالنبي كله ساعة زمان نتونس ونرجع للبيت".
الأولاد: "بابا لا تخاف نحن ندير بالنا على نفسنا".
الأب: "أي حبايبي الله يخليكم ويحفظكم ويجعلكم دوم فغحانين".

نزل الناس تباعاً إلى العبّارة التي تقلهم إلى الجزيرة، وكلهم أمل ورغبة أن يستمتعوا بأجواء الربيع الجميلة، وفي هذه الأثناء ركبتِ العائلة جميعها.
الابن: "بابا والله الماي حيل عالي اليوم طلع كلامك صحيح".
الأب: "ابني انا قتولكم، بس قلتو اعبغكم وما يصيغ خاطركم الا طيب".

إلى هنا انتهتِ الصورة المشرقة من القصة، وستبدأ قصة أخرى. لقد بدأت العبّارة بالسير، وفي منتصف النهر، بدأتِ النكبة والفاجعة، لقد بدأت العبّارة تتهاوى، قطع أحد أسلاكها، وبدأ الناس يتجمهرون في مكان معين.. بدأ الخوف يخيّم على المكان، ها نحن في وسط النهر، على مشارف الموت..

الابن في خطابه الأخير ما قبل الرحيل: "بابا اش عيصيغ؟".
الأبُ يلفظ كلماته الأخيرة: "ابني لا تخاف ما كو شيء".

انتهى كل شيء، كل شيء حل بنا، لقد انقلبتِ بنا العبّارة في وسط النهر، ومضى كل واحدٍ منّا لحاله، وكأن لسان حال الأب: لا بأس أن غرقتُ أنا لينجو بقية أولادي، الابن يصرخُ بصوتٍ عالٍ ولكن لا مجيب، فسرعة النهر كانت كبيرة جداً، غرق الجميع، نجا البعض ومات آخرون.. وما زال في النهر عدد آخر.

هذه صورةٌ واحدة من مئات الصور، بل من مئات الفواجع التي حلّت بنا، صورة تقريبية لحدث جديد في حياتنا البائسة المليئة بالأحزان، لقد تعوّدنا على مدار عقود من الزمن أن نموت حرقاً بمفخخة أو إطلاقة طائشة أو قصف من الأصدقاء، ولكن لم يكن في حسباننا أننا سنموت غرقاً.

هكذا أمست الموصل حزينة يوم الخميس الماضي 21 مارس/ آذار، ليكون يوماً جديداً من أيام نكباتنا المتتالية لنستذكره كل عام، ومنذ ذلك المساء إلى اللحظة هذه التي أكتب فيها هذه الكلمات اتشحت الموصل بالسواد، ولم تتشح بالسواد مثلما اتشحت هذه الأيام، لقد أحيت العبّارة مصائب قديمة حلّت بها، وبدأتِ المدينةٌ حزينة بإنسانها وشوارعها وأزقّتها ومؤسساتها، بكى كل شيء فيها، بكى الحجر والشجر والطير والبشر.

تحركت كل مياه الحزن الراكدة فينا.. وكأننا بهذا الموت والمصائب والفواجع ننشد الغفران عن ذنوبٍ لم نرتكبها!

وتبقى رسالتي لكل إنسان حي الضمير: إن كل الذنوب قابلة للغفران، إلا الذنب الذي تشارك به في فجيعة إنسان.