أصوات تختنق!

أصوات تختنق!

10 سبتمبر 2020
+ الخط -

اتصل بي صديق مقرّب يقيم في دولة خليجية لها شأنها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، يخبرني عن واقع الحياة الحالية التي يعيشها المغتربون هناك، وهو الآن بدون عمل ومنذ ما ينوف عن الخمسة أشهر بسبب جائحة كورونا، التي لم يخلص من تبعاتها أحد لا في الشرق ولا في الغرب، وأُقفل على أثرها الكثير من الأعمال التي يشغلها العاملون هناك، ومنها بصورة خاصة الأعمال المتعلقة بالسياحة، وعلى وجه التحقيق الفندقية، التي يعتمد عليها كلياً في تنشيط القطاع السياحي.

الوضع متأزّم جداً ولا يشجّع على البقاء فيها، خاصةً وأنّه أمضى العديد من الأشهر بدون عمل يساعدهم على تأمين مستلزمات معيشتهم، ودفع ايجار سكنهم، وهم ما زالوا حبيسي منازلهم، لا يمكنهم مغادرتها أو التواصل مع أعمالهم، مورد رزقهم، أو يمكنهم القيام بأي عمل آخر!.

وحسب ما أكد، أنه استنزف ما سبق أن جمعه من مبالغ مالية خلال السنوات السابقة التي كان يشغل فيها عملاً يدرّ عليه دخلاً جيداً، وصرفها في حاجات معيشية بسبب ظروف الإغلاق الحالية التي شملت جميع القطاعات والأماكن في الدولة، باستثناء بعض المواقع فيها، ما أضرَّ الكثير من أصحاب اليد العاملة الذين يعتمدون على عضلاتهم في تأمين رزقهم، وهم اليوم يعانون من انحسار في العمل، ووقف أغلب العُمال عن ممارسة أعمالهم التي كانوا مواظبين عليها، ما يعني تقديم يد العون لهم والعمل على مساعدتهم، بدلاً من حاجز الصمت الذي يعانون!!.

اتصال الصديق في وقتٍ متأخر من الليل، ولساعات طويلة، وهو ينقل لي وجعه حيال الواقع المعاش الذي وصل إليه حال الكثير من العمال العرب والآسيويين المقيمين في هذه الدولة الخليجية الغنية، أماط اللثام عن كثير من المعاناة، وإنَّ الواقع الحالي ينذر بجائحة توازي أو تفوق فيروس كوفيد 19 إن لم يتم معالجتها من قبل الحكومة من خلال دعم هؤلاء العُمّال ومساعدتهم مادياً على تأمين سبل العيش، وتغطية نفقات إقامتهم ومعيشتهم، ما يضطر البعض من المقتدرين مادياً إلى اللجوء إلى مراجعة السفارات الأوروبية هناك، هرباً من حالة الاختناق التي تعيشها الحناجر، متأملين حصولهم على تأشيرة أي دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي للرحيل هرباً من الحالة التي وصلوا إليها، ويعانون منها، بعد أن كانوا مكتفين مادياً ويعيشون في بحبوحة!

***

استوقفني العديد من الناس الذين أخذت أصواتهم ترتفع بعد اختناق، للسؤال عن كثير مما نسجته الحرب السورية التي لم تعد معها خافية على أحد، بل ويكثرون من طرح الأسئلة الملحّة عن مبرّرات حدوثها، ولماذا حصل كل هذا؟ وألم يكن بالإمكان أن تتلافى القيادة الحكيمة ما حدث، مع انطلاق شرارتها الأولى بالإفراج عن الشعب السوري، بالعمل على توفير أبسط مقومات العيش الكريم له، وتأمين متطلباته من خيرات بلاده الغنية؟ وفي حال توافر للمواطن كل هذا، فهل كانت ستخسر القيادة المثالية شيئاً من جيبها؟

أعلمني بعض الأصدقاء الشباب الذين يعيلون أسر كبيرة، إلى جانب أسرهم، وهم من المحسوبين على أنهم من (زلم) النظام، صار لهم ولأكثر من ثلاثة أشهر، لم يتمكنوا من استلام مستحقاتهم الشهرية، على الرغم من أنها لا تسدّ الرمق

أظن أنّه لا يمكن لها أن تخسر شيئاً، بل على العكس تماماً فإنها رابحة بكل المقاييس.. وإن خسرت فإنها هي الرابح الأكبر، ولديها القدرة على أن تدفع له بعض الفتات من خيرات هذا البلد الذي ولدوا وعاشوا على ترابه، فلماذا هذا التبرّم الأعمى، والتجاهل الغاضب؟ ولماذا لم تكن الحكومة سخية معه، وكان بإمكانها أن تفعل الكثير في سبيل إرضائه؟

ما ينتجه بلد مثل سورية كبير وكبير جداً وهو فائض عن حاجة أهلها.. حتى أنَّ هناك بعض ما تنتجه يصدّر الفائض منه إلى دول الجوار، ومنها ومن أهمها الكهرباء التي حُرم وما زال يُحرم من نعيمها المواطن السوري، ومنذ زمن بعيد، فإنه ـ وللأسف ـ ما زال يعيش على الكفاف، فإلى متى؟ في الوقت أن بعض دول الجوار كانت تنعم بها على حساب المواطن السوري الذي عاش حياة فيها الكثير من الذل والفاقة!

إنَّ الكثير من أبناء سورية اليوم باتوا يدركون أنَّ الواقع المعيشي فيها يحمل الكثير من المعاناة، وأخذوا يستذكرون معه أيام الزمن الجميل، على الرغم من أنها لم تكن بالصورة التي كان يرغبون فيها، وإنما يمكن أن نقول إنها كانت مقبولة إلى حدٍ ما، على الرغم من أن هناك تفاوتا طبقيا بين بين.

بين أسر تعيش في بحبوحة، وأخرى على الكفاف تنتظر من يدفع لمساعدتها في تأمين لقمة عيشها، وغيرها تعيش في برج عاجي!

***

أعلمني بعض الأصدقاء الشباب الذين يعيلون أسرا كبيرة، إلى جانب أسرهم، وهم من المحسوبين على أنهم من (زلم) النظام، صار لهم ولأكثر من ثلاثة أشهر، لم يتمكنوا من استلام مستحقاتهم الشهرية، على الرغم من أنها لا تسدّ الرمق.

إن توقف دفع رواتب هؤلاء الشباب العاملين المتزوجين والذي لا يزيد فيها سقفها على الأغلب، مع تعويضاتهم الشهرية، الأربعين ألف ليرة سورية، (خمسة وعشرين دولارا أميركيا)، فهي متوقفة عن الدفع للكثير من الأسباب التي تلجأ إليها بعض الإدارات الحكومية، ومحاسبي الإدارات، بوضع العصي في العجلات قبل تسليمهم مستحقاتهم، سواء أكانوا مقيمين داخل مدينة حماه أم خارجها، وهذا ما يضطرهم إلى قطع مئات الكيلومترات، وبعد فترة انتظار قد تطول أشهراً، والتوسّط لدى عمرو وزيد من الناس، و(بوس الشوارب واللحى)، ناهيك عن دفع الرشى للمحاسبين الصغار، وأجور نقلهم من والى مواقع الإدارة التي يعملون فيها، والمحافظة التي يقيمون فيها، لقاء قبضهم مبالغ مالية بالكاد تضيف إلى حياتهم بعض الأمل، وتساعدهم في شراء بعض الحاجات الضرورية التي صارت لا تشكل شيئاً أمام الانهيار الاقتصادي للعملة، والغلاء المعيشي المستفحل الذي أصبح لا يطاق!

***

نقل لي أصدقاء من الشباب المقيمين في مدينة الرّقّة، التي حوّلتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، على تدمير أكثر من ثمانين بالمائة من أبنيتها، وتهجير أهلها بذريعة تحريرها من (داعش)، عمق المعاناة بعد أن طفح بهم الكيل أخيراً أنّهم سيلجأون إلى الهجرة للخلاص مما هم فيه، كما فعل غيرهم من الأصدقاء والأقارب، وباتوا يلتمسون خيوط النجاة من وهم الإقامة في بلد يعيش أبناؤه في أمان واستقرار، بل إنهم يعيشون في ضائقة مادية، وواقع مؤلم لم يسبق أن عرفوه من قبل!

هؤلاء الشباب، وعلى الرغم من ضيق ذات اليد والفقر المدقع الذي يعانون، فإنّهم سيهجرون أسرهم ومساكنهم المترامية، وسيرمون بكل ما لديهم، ويضطرون إلى الفرار بأنفسهم بسبب الفاقة التي يعانون، والعيش على الكفاف، وحالتهم المزرية التي تثير الكثير من الاشمئزاز، وفرارهم من هذا الواقع المؤسي، وعودة قسم كبير من عاد إلى الوطن، العودة لطلب الهجرة من جديد تحت ضغط العيش الذليل، وتراجع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، والوضع الاقتصادي المنهار، فضلاً عن أعمال القتل والخطف والنهب التي ترتكب بحق أهلنا الشرفاء هناك، وغياب الأمن، وسيطرة عصابات قوات سورية الكردية (قسد)، وتجنيدها الكثير من  الشباب في الخدمة العسكرية، وبأجور زهيدة، وإلّا سيكون مصيرهم السجن أو الموت المحتّم، كل ذلك وغيره دفع الكثير من الشباب الصغار، وبصورة خاصة المتزوجين أصحاب الأسر، إلى اللجوء إلى الفرار لتركيا، ومنها إلى الدول الأوروبية طمعاً في عيش حياة كريمة، وفي ظل دول تحترم الإنسان، وتوفّر له مقومات الأمان واحترام شخصه ورعايته.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.